كتبت بيثان ستاتون في مجلة "
نيوزويك" مقالا حول الأوضاع في الضفة إبان الحرب الإسرائيلية على غزة قالت فيه: "إن صوت أهل الضفة الذين وصلوا إلى حالة من الإحباط تجاه سنوات من محادثات السلام غير المثمرة، بدأ يعلو وبدأوا يعبرون عن غضبهم".
وقد تظاهر 10 آلاف شخص الشهر الماضي ضد الحرب على غزة، وهناك مواجهات يومية، والمقاطعة للبضائع الإسرائيلية تتسارع، ولأول مرة منذ سنوات يتم الحديث عن انتفاضة بشكل جاد هنا.
كان يوم السبت صباحا وجلس محمود صبح على مكتبه في
مخيم بلاطة للاجئين وهو متعب، حيث راقب هذا الرجل البالغ من العمر 48 عاما ما يحصل في غزة، حيث تعيش معظم عائلته، لأكثر من شهر ومثل معظم سكان الضفة فقد روعته أعداد الضحايا ويقلقه غليان الوضع من حوله.
يقول صبوح إنه في مثل هذه الأوقات يراقب الناس ما يحصل في بلاطة، حيث تعتبر مخيمات اللاجئين الباروميتر لبقية فلسطين. ويقع مخيم بلاطة في شمال الضفة الغربية، وقد أنشئ عام 1948 لاستقبال بعض اللاجئين من 750 ألف لاجئ طردوا من بيوتهم إبان النكبة ونتيجة قيام دولة "اسرائيل".
ويصل تعداد سكان المخيم الذي لا تتجاوز مساحته الكيلومتر المربع الواحد 29 ألف نسمة، وكان أحد أهم محركات الانتفاضة عام 1987 وعام 2000. وهو مكان ولادة العديد من التنظيمات السياسية والعسكرية، ولكن الانفجار الذي كان متوقعا من بلاطة لم يأت بعد.
يقول صبح الذي يدير مركز رعاية نفسية في المخيم: "الأمور تختلف هذه المرة ولم يكن رد الفعل نحو غزة هو ما يتوقعه الناس، فكانت هناك مظاهرات وجمع تبرعات. كما أن هناك التزاما أكبر تجاه المقاومة المسلحة ولكن ما زال الناس بانتظار عمل كبير مستمر ومنظم".
وهناك سبب مهم؛ فقد خسر هذا المخيم في تاريخه المضطرب الكثير من أبنائه قتلى وجرحى ومعتقلين، بالإضافة لهدم البيوت على أيدي قوات الاحتلال، وهذه المخاوف بقيث تلوح بشكل كبير في أفق المجتمع سابقا وحاضرا.
ويضيف صبح: "الناس هنا يعرفون أنه عندما نقف لنفعل شيئا فسندفع الثمن".
ولا يتحدث صبوح عن ثمن بسيط في الانتفاضة الثانية؛ فقد تمت محاصرة مخيم بلاطة وقطعت عنه الكهرباء لأسابيع، وتم إغلاق المخيم بالأسلاك الشائكة والكتل الخرسانية، ووضع القناصة على أبواب المخيم.
وكان عدد القتلى من بلاطة بالمئات، وعندما واجهت قوات الاحتلال مقاومة من السكان قامت بالوصول إلى أهدافها من خلال خرق الجدران بين البيوت، حيث كانت تحتل البيت وتحتجز أهله في المطبخ بينما يقوم الجنود بتفتيش البيت والانتقال إلى بيت الجيران من خلال تفجير الجدار بينهما.
وتبقى بلاطة اليوم مكانا قضى معظم الرجال فيه وقتا في السجون الإسرائيلية، ويقوم الجيش الإسرائيلي باعتقالات ليلية في كثير من الأحيان، والبطالة تصل فيه إلى 50% والنسبة الأعلى بين الشباب. وأدى التطرف والتهميش إلى مشاكل اجتماعية. وعادة ما تنتهي المواجهات على الحواجز، حيث يجتمع الشباب يوم الجمعة يلوحون بالأعلام ويلقون بالحجارة والمفرقعات بإصابات خطيرة أو حتى وفاة.
وبالنسبة للشباب مثل لؤي، الذي يستخدم اسما مستعارا خوفا من العنف والاعتقال، فإن اليأس والغضب قضى على أي أمل في السلام، حيث يقول: "كيف أستطيع أن أعيش مع أناس وضعوا أبي في السجن؟".
وقضى لؤي البالغ من العمر 24 عاما معظم سني حياته وأبوه في السجن، وخلال الأسابيع القليلة الماضية فقد صديقه المقرب عائلته كلها في غزة. ويشارك حمزة البالغ من العمر 18 عاما -ويأمل بأن يصبح مترجما- صديقه في حالة اليأس ويقول: "الناس لا يثقون بإسرائيل، إنهم يأتون لقتلنا في الليل، إنهم يريدون الأرض ولا يريدون الفلسطينيين هنا، إنهم يريدون كل شيء".
وعند ذكر السلطة الفلسطينية التي تسيطر عليها فتح والتي تحكم الضفة الغربية بشكل جزئي، يضحك الشباب بسخرية ويحتفظون بنفس السخرية للحكومات العربية والغربية.
ويقولان إن سنوات من محادثات السلام لم تحدث أي تقدم نحو دولة فلسطينية؛ فعلى الناس الآن أن يدافعوا عن مناطقهم، يقول حمزة: "نحتاج إلى أن نفعل كما فعل أهل غزة وندافع عن أنفسنا.. يجب وقف المفاوضات، فإنه لا معنى لها ولن تؤدي إلى شيء، فما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة".
ولكن الكلام أسهل من العمل، وبينما تثابر السلطة على الوسائل الدبلوماسية وبينما حصلت حركة حماس على تأييد كبير خلال الأسابيع الماضية فإن الشابين يعتقدان بأن وحدة رؤية وقيادة لا يزال أمرا بعيدا.
والناس في بلاطة يدركون أيضا أن الانتفاضة ليست صورة رومانسية لشاب يرمي بحجر على دبابة. وحتى عندما يناقش الأصدقاء فكرة الانتفاضة ينبري طارق البالغ من العمر 18 عاما، فيقول: "أنا لا أريد انتفاضة ثالثة.. أريد أن أعيش".
ويتفق الشباب على أن أي عمل حقيقي لن يكون خلال أسابيع أو أيام، بل خلال سنوات، حيث إنه يحتاج إلى تنظيم وموارد ودعم دولي. والأهم من هذا أنه يحتاج لوحدة، فيقول حمزة: "قبل أن نفكر بانتفاضة ثالثة يجب علينا العمل على تجميع أنفسنا والترتيب بين الفلسطينيين.. ليس حماس و فتح وغيرهما، بل كل الشعب الفلسطيني".
ويستمر صبح بالمتابعة من خلف مكتبه في بلاطة: "إنه وقت انتظار طويل ولكن الناس ينتظرون بقليل من الصبر.. أما الرسالة التي تأتي من غزة.. من الناس الذين تكبدوا الخسائر، فهي: هذه التضحيات هي الثمن المتوقع لكي نعيش حياة كريمة. وهذه رسالة قوية أن يقوم شخص فقد عائلته بتوجيه التحية للمقاومة وتوجيه التحية لصبر الشعب".
مخيم بلاطة يغلي، ولكن
الذاكرة تلقي بظلالها وتبقى أسئلة متى وماذا وكيف سيحصل التغيير، غير مجاب عنها. ومع أن الفعل لا بد منه إلا أن السكان يقولون إن تقدير التضحيات لا يزال بحاجة لوقت.