كتب بكر صدقي: نجح «تنظيم الدولة» في إعادة الولايات المتحدة إلى الانخراط في شؤون المنطقة، بعد سنوات من انكفاء أسس له تقرير بيكر – هاملتون في أواخر عهد جورج دبليو بوش، ونفذت إدارة الرئيس أوباما توجيهاته بأمانة خلال السنوات الماضية. من منظور اليوم، يبدو وكأننا نستأنف ما انقطع من حقبة ما بعد 11أيلول/ سبتمبر، وكأن ما سمي بثورات الربيع العربي ما كانت. أو بالأحرى يراد لنا أن نطوي صفحة ربيع الشعوب العربية التي بدأت منتونس بإحراق محمد بوعزيزي نفسه، وتتابعت فصولاً بإسقاط طغم عائلية فاسدة في تونس ومصر وليبيا واليمن خلال أشهر معدودات. وحين اصطدمت موجة ثورات الحرية هذه بجدار نظام الأسد السلالي الطائفي، تمت استعادة مناخ 11 أيلول 2001 من جديد لوأد فكرة الثورة على الطغيان مرةً وإلى الأبد.
في مصر عاد الجيش إلى استلام زمام المبادرة من جديد، ويمضي النظام الانقلابي حثيثاً نحو تجريم ثورة 25 يناير وتبرئة عائلة حسني مبارك من الجرائم المنسوبة لها. وفي ليبيا
حرب أهلية وتنازع أطراف عدة على الشرعية وتدخلات خارجية هدفها دفع الليبيين إلى الترحم على حكم العقيد القذافي. وفي اليمن حرب أهلية وشيكة بتحريض من إيران من شأنها أن تقضي على نتائج الثورة المنقوصة أصلاً.
لكن كل هذه التطورات ما كانت ممكنة لولا الحرب المفتوحة التي شنها نظام الأسد على سوريا والشعب السوري منذ أول صرخة طالبت بالحرية في آذار 2011. حرب متعددة المستويات فاضت عن الجغرافيا السورية على الدول المجاورة قد تستمر سنوات إضافية ما دام جذر المشكلة، نظام الأسد الكيماوي، باقياً حيث هو مستمراً في تصدير العنف والإرهاب على مساحة واسعة تمتد من العراق إلى سوريا ولبنان وتركيا وربما إلى مناطق أبعد.
لا يتطلب الأمر حسابات معقدة ليتعرف المرء على الحصائل المحتملة للحرب المقدسة الجديدة على
الإرهاب ممثلاً حصراً في تنظيم الدولة الإسلامية «
داعش». فالحرب الأولى التي أطلقها جورج بوش وأركانه من المحافظين الجدد انتهت إلى انفلاش ما سمي بإرهاب منظمة القاعدة وتمدده وتكاثره بدلاً من القضاء عليه. ولا تختلف عناصر الحرب الجديدة عن نسختها القديمة كثيراً، إلا بتفصيل تقني يتعلق بزج القوات البرية في الحرب الذي ترفضه إدارة أوباما إلى اليوم. وربما يعود هذا الامتناع إلى إدراك هذه الإدارة أنها تخوض حرباً خاسرة جديدة، وتريد لهذا السبب تجنب الخسائر البشرية في الجيش الأمريكي.
ففي الحرب الأولى تعاونت إدارة بوش مع إيران في حربيها على أفغانستان والعراق (الأمر الذي سيتكرر موضوعياً اليوم حتى لو أعلنت إدارة أوباما رفضها المبدئي لهذا التعاون)، وكانت النتيجة أن العراق قدم لقمة سائغة للأطماع الامبراطورية الإيرانية، ومعه لبنان وسوريا «على البيعة». وعلى رغم الأهمية الاستراتيجية لطرد جيش نظام الأسد من لبنان، في نيسان/ أبريل 2005 في أعقاب اغتيال رفيق الحريري، فقد ابتلع حزب الله الإيراني الدولة اللبنانية منذ ذلك الوقت. وتحول نظام الأسد من حليف لإيران إلى تابع يدور في فلك ولاية الفقيه.
وفي غضون ذلك انتعشت فروع منظمة القاعدة في وسط إفريقيا وشرقها، من مالي إلى نيجيريا فالصومال، بعد الضربات الكبيرة التي تعرض لها في أفغانستان والعراق، لتصل إلى ذروة قوتها وتمددها في بيئة الخراب التي خلفها نظام الأسد في مختلف المناطق السورية، كما في بيئة التهميش والقمع التي تعرض لها سُنَّة العراق على يد نظام نوري المالكي.
لقد أوجد كل من الأسد والمالكي البيئة المثالية لاستقطاب الجهاديين من مختلف بقاع العالم، لتولد من رحم هذا الخراب «الدولة الإسلامية» بقيادة الخليفة أبي بكر البغدادي. وها هو ما يسمى بالمجتمع الدولي بقيادة الولايات المتحدة ينجح في تحويل أجندة العالم من «حل سياسي» للمشكلة السورية (فشل في جنيف2) إلى حرب على «داعش». ولعب هذا الأخير دوره على أتم وجه في هذا التحول، بقطع رأس الصحافي الأمريكي جيمس فولي أمام كاميرة فيديو. هذا المشهد الدموي الذي أنسى العالم استخدام نظام بشار للسلاح الكيماوي في غوطة دمشق، وكانت نتيجته نحو 1500 قتيل من المدنيين بينهم الكثير من الأطفال. كما أنساه صور موثقة لـ 11 ألف قتيل تحت التعذيب في أقبية مخابرات الأسد، فضلاً عن عشرة ملايين من السوريين الهائمين على وجوههم داخل سوريا وخارجها.
تقتضي الأمانة التذكير بأن الغارات الجوية الأمريكية على مواقع تنظيم داعش بدأت قبل إعدام جيمس فولي بتلك الطريقة البشعة على نهج أبي مصعب الزرقاوي. بل كان الإعدام رداً من التنظيم على الحرب الأمريكية عليه وتهديداً بقتل ضحيته التالية «سوتلوف» ما لم توقف الولايات المتحدة غاراتها عليه.
تتفوق استراتيجية إدارة أوباما، سوءً، في حربها على «الدولة الإسلامية» على حرب سلفها إدارة بوش على منظمة القاعدة، في أنها تسعى إلى دفع جميع القوى المحلية إلى أتون حرب طويلة تنهكها جميعاً وتقضي، أول ما تقضي، على فكرة الحرية التي التمعت حيناً في ثورات الربيع العربي.