انتهى العدوان على
غزة بدون أن يحقق أهدافه المعلنة في القضاء على حركة
المقاومة الإسلامية
حماس، إلا أنه تسبب في إحداث دمار هائل في المباني والبنية الاساسية وتسبب في قتل المئات من الأطفال والنساء. هنا تكمن المفارقة في الساحة
الفلسطينية بين من يقول إن المقاومة هي السبيل الوحيد لتحقيق المطالب الوطنية الفلسطينية وهي الكفيلة وحدها باسترجاع الحقوق وبين من يقول إن هكذا مقاومة ضررها أكثر من نفعها.
بقي الشعب الفلسطيني رهينة لهذا الصراع الذي لا ينتهي وهو صراع قديم عمره عمر الاستيطان الصهيوني في فلسطين، صراع بين خيار المقاومة أو الكفاح المسلح كما سمي في الستينات وبين خيار التفاوض أو الحل السلمي. هذا الصراع يشق الساحة الفلسطينية في الداخل الفلسطيني وفي دول الشتات، لم يكن لينتهي حتى يبدأ ولا يهدأ إلا ليعود من جديد.
كان صراع الخيارين في مرحلة سابقة يجري في إطار منظمة التحرير الفلسطينية، بعد الانتفاضة الأولى واتفاقات
أوسلو نشأ اصطفاف جديد؛ تشكلت وعملت تنظيمات المقاومة (حماس ؛ الجهاد) خارج إطار منظمة التحرير الفلسطينية التي أصبحت مشكلة من التنظيمات المنضوية تحت خيار أوسلو التفاوضي برعاية عربية ودولية.
في تصريح قديم وصف الرئيس عرفات منظمة التحرير الفلسطينية بأنها ديمقراطية في غابة من البنادق ولكن المنظمة والبندقية افترقا فانتهى به الأمر مقتولاً بدون أن يجد من يدفع عنه القتل ولو بطلقة واحدة. كان التفاوض قبل أوسلو مسنودا بالبندقية وأصبح بعدها يتيما ، وكانت البندقية قبل أوسلو في خدمة التفاوض وأصبحت بعده يتيمة سياسيا وبلا غطاء عربي. تزداد الحرب الباردة بين الخيارين سخونة بفعل تداعيات المواجهة المسلحة بين المقاومة وإسرائيل في غزة.
" انتصار غزة " مشكلة في التوصيف وفي الآثار
أثار توصيف المقاومة للاعتداء الإسرائيلي على غزة بأنه انتصار باهر للمقاومة "لم يسبق له مثيل في تاريخ الصراع مع إسرائيل" حفيظة السلطة الفلسطينية فضلا عن المحيط العربي. خوف السلطة ليس في التوصيف ذاته ولكن في الآثار المترتبة عنه، إن قبلت السلطة الفلسطينية وحركة
فتح بالتوصيف أعلاه تصبح حينها عرضة لتداعياته. ماجدوى التفاوض إذا كانت المقاومة أقدر على تحقيق المطالب واكتساب الحقوق؟ الصمود المذهل لفصائل المقاومة وفي مقدمتها كتائب القسام ووقوفهم بندية أمام الغطرسة الإسرائيلية وحرص إسرائيل على وقف الحرب والاستجابة، الجزئية على الأقل، لمطالب المقاومة أعاد إلى الساحة الفلسطينية الجدل القديم الجديد (مقاومة أم مفاوضات)، أين تنتهي المقاومة ومتى يبدأ التفاوض.
بعد حرب غزة الأخيرة تحول الجدل إلى تناقض وجودي، ترى السلطة في المقاومة تهديدا وجوديا، لم تجف دماء الشهداء بعد حتى سارع محمود عباس للتأكيد أن الشاباك أخبره أن حماس بصدد ترتيب انقلاب يطيح بالسلطة في رام الله، وأن حكومة ظل في غزة تعرقل عمل الحكومة الفلسطينية في القطاع. لم يشفع لحماس أنها قبلت بحكومة وفاق وطني قبل الاعتداء الإسرائيلي واندرجت أثناء العدوان في وفد تفاوضي واحد برئاسة عزام الأحمد لبحث وقف إطلاق النار.
توقفت قذائف الطائرات الإسرائيلية لتجد حماس في انتظارها قذائف من نوع آخر تطلقها سلطة رام الله؛ اتهام بتدبير انقلاب وقطع الرواتب عن القطاع، لم يفهم قادة حماس أو لم يريدوا أن يفهموا أن بنية سلطة أوسلو لا تقبل الموائمة بين الخيارين أو الخلط بين المسارين ، لا يقبل نظام أوسلو الذي تشكل ومجموعة المصالح التي تكونت حوله والقوى الدولية التي رعته أي تغيير في طبيعته أو مشاركة من خارجه وحتى محاولات التغيير من داخله أقصيت مبكرا، انتهى عرفات مقتولاً ولا يزال مروان البرغوثي سجينا.
لم يكن يحتاج نظام أوسلو إلى حرب في غزة، صمد فيها الشعب الفلسطيني ومقاومته 51 يوما، ليظهر عداوته للمقاومة وتشكيكه بجدواها، كان يكفيه مظاهرة سلمية صغيرة أمام حاجز إسرائيلي في رام الله حتى تستشري قواته الأمنية بحق المتظاهرين اعتقالا وضربا وتسليما لقوات الجيش الاسرائيلي، لا تقبل بنية مشروع أوسلوا القسمة و"انتصار غزة معاد لمنطقها ومناقض لمنهجها.
المقاومة الفلسطينية ليست بأفضل حال، لهذا "الانتصار" تكاليفه، ليست السلطة وحدها من لا يقبل هذا الانتصار، العرب أيضاً؛ اشتد الحصار على المقاومة عربيا ودوليا، يكاد حجم الدمار الهائل والمقاطعة الدولية المتصاعدة أن يأكلا رصيد المقاومة في مواجهة الجيش الاسرائيلي.
لا يجد الثبات العسكري أمام جيش الدولة العبرية ترجمة سياسية لصالح المقاومة أو مكاسب اقتصادية لأهل القطاع ، سياسيا اشتد صراع حماس/ فتح، وتعمق الانشقاق في الساحة الفلسطينية، اقتصاديا منعت حكومة الحمد لله صرف الرواتب في غزة بما زاد من معاناة أهل القطاع بعد أن تكشف حجم التدمير الذي أصاب البشر والحجر وتأخر جهود إعادة الإعمار .
لا يكسر هذه الشرنقة الفلسطينية في الأفق المنظور غير أمرين، تبدل الوضع القائم في الضفة والقدس بانتفاضة شعبية تعيد خلط الأوراق وتفرز اصطفافا جديدا تتوحد فيه الضفة والقطاع في حالة نضالية مستجدة، أو يزداد الانفصال ويتعمق بين الضفة والقطاع وتنجح إسرائيل في خطتها بمنع تشكل كيان سياسي مستقل وقابل للحياة بين نهر الأردن والأراضي التي احتلتها في حرب 1967. أما المواءمة بين المقاومة وأوسلوا فقد استحال سابقا ولن ينجح حاليا إلا أن يتغير أحد الطرفين، ممكن أن تتحول حركات المقاومة إلى النهج التفاوضي وتلقي بسلاحها مستعيدة تجربة فتح، أما تغير نهج نظام أوسلو فمستحيل وجوديا وغير قابل للحياة بنيويا.