كتب سمير مرقص: صار تعبير "
الربيع العربي" هو التعبير المعتمد فى الدراسات الغربية لوصف الحراكات والهبات والانتفاضات التى جرت في المنطقة العربية، بداية من انطلاق شرارة الاحتجاج المكثف: الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والثقافي في
تونس ومصر مرورا باليمن وليبيا والبحرين إلى سوريا. فى هذا السياق يخصص
فوكوياما فصلا في مجلده الأخير: "النظام السياسي والتآكل السياسي" يقدم فيه تحليلا غاية في الأهمية ولا يخلو من وجاهة وجدير بالنقاش..
وترجع أهمية ما كتبه فوكوياما إلى ثلاثة أسباب هي: الأول: هو أن الدراسات التى تناولت «الربيع العربي» لم تزل قليلة وما صدر إلى الآن تغلب عليه السمة الانطباعية. أما فوكوياما فقد تناول «الحراكات» العربية بعمق تحليلى متعدد المستويات. وهو بهذا يعد له السبق مع قلة من الباحثين تناولت بجدية جوهر ما جرى فى المنطقة. وفى هذا المقام نذكر بعضا من هذه الدراسات كما يلي:
دراسة جيلبر الأشقر: الشعب يريد، ودراسة ميلانى كاميت: الأسس الاجتماعية للثورات العربية، ودراسات متفرقة معتبرة فى الدورية الشهيرة «اليسار الجديد» لبيرى أندرسون وجوران ثوربورن، كذلك نشير إلى كتابات لارى دايموند.
السبب الثاني: أن فوكوياما قد وضع حدا للدراسات التى تصدر عن مراكز بحثية منحازة للتقليل من شأن مما حدث والترويج لمقولات تشكك فى دوافع تحركات الناس والتضحيات التى بذلوها من أجل تحقيق حياة أفضل. ومن هذه الزاوية تحديدا أنصف حركة المواطنين البازغة. وإن كان له ملاحظات أخرى قد نختلف معه فيها.
أما السبب الثالث والأهم هو: أن فوكوياما قد قام بعمل دراسة مقارنة بين الربيع العربى والثورات التى شهدتها القارة الأوروبية منذ منتصف القرن التاسع عشر وامتدت لعقود بعدها. لذا عنون الفصل الخاص بالربيع العربى بما يلي: «من 1848 إلى الربيع العربي»؛ ويقصد به من سنة انطلاق الثورات الأوروبية إلى الربيع العربي. وكأنه يؤكد وضع الربيع العربى فى مسيرة النضال التاريخى من أجل الديمقراطية بالرغم من أى تحفظات أو ملاحظات...فماذا قال فوكوياما فى هذا الفصل؟..
يمكن أن نوجز ما طرحه فوكوياما فى النقاط الخمس التالية كما يلي: أولا: ينطلق فوكوياما من أنه يصعب التوقع بنتائج الربيع العربى على المدى الطويل، إلا أنه ينبغى القبول بما جرى ككل. وتذكر أن لا ينبغى الحكم سلبيا على ما جرى خلال السنوات الأربع الماضية بسبب النتائج الكارثية من فوضى وصراع وعدم استقرار،...إلخ ذلك لأنه ينبغى تذكر ما جرى فى
أوروبا وما طالها من انتكاسات حتى استقر الأمر.
فلقد كانت العملية السياسية فى أوروبا غاية فى التعقيد وتتسم بالعنف. وعليه استغرق الأمر وقتا طويلا حتى يستقر النظام الديمقراطى ويترسخ. ثانيا: يؤكد فوكوياما التشابه بين حالتى أوروبا القرن الـ19 والمنطقة من حيث عدم وجود سابق خبرة بالديمقراطية. ومن ثم لابد من خوض المعركة من أجل ترسيخها فى الواقع. أخذا فى الاعتبار أن المنطقة لديها ميزة نسبية، مقارنة بأوروبا القرن الـ19؛ هى أن المجتمع الدولى بات يضم دولا اختبرت الديمقراطية وأصبح نظامها السياسى نموذجا ديمقراطيا يمكن أن يقدم كخبرة يسترشد بها للمنطقة.
ثالثا: يعقد المؤلف مشابهة مهمة بين الربيع الأوروبى التاريخى وبين الربيع العربى تتمثل فى أن الطبقات الوسطى فى كل من الربيعين كانت هى الفاعل الرئيسى والمفتاحى فى تنظيم الثورات و«الحراكات» والضغط فى اتجاه التغيير السياسي. ولأنهم نتاج عملية التحضر فإن عليهم مسئولية كبيرة فى إنضاج العملية الديمقراطية متى انحازت إلى التقدم لا المحافظة وتخلصت من تراوحاتها.
رابعا: يشير المؤلف إلى تشابه تاريخى آخر بين أوروبا القرن الـ19 والمنطقة من حيث الدور الذى يلعبه الدين فى المجال السياسي.فلقد ظلت الأحزاب السياسية فى أوروبا ـ لفترة ـ تدافع عن الدين فى مواجهة المصالح الطبقية والسياسية للمواطنين. إلا أن النضال التاريخى الأوروبى قد أوضح أن جوهر الصراع فى حقيقته هو حول المصالح. وهو ما لم يحسم بعد فى السياق العربى لاعتبارات كثيرة.
خامسا: يقارن فوكوياما بين الطبيعة الاجتماعية للمحافظين والقوى الدينية فى كل من أوروبا والمنطقة وهو ما يمكن أن يؤخر كثيرا فى الانخراط فى النظام الديمقراطي.
فى المحصلة يقرر فوكوياما على أن العملية الديمقراطية تنبت من الحراك الاجتماعى بهدف إحداث التغيير الاقتصادى والاجتماعي. وأن «عملية ديمقراطية شاملة جيدة تحتاج إلى تفاعل بين كل المؤسسات السياسية: الأحزاب القوية المنظمة والجماهيرية، ونظام قضائى مستقل حديث، وجهاز بيروقراطى فاعل وكفء، وإعلام ذات وعى ناضج» فالأمر ـ لديه ـ اكثر من حصره فى العملية الانتخابية التى هى مجرد وسيلة». وإن إسقاط الحاكم المستبد ليس إلا بداية لعملية ممتدة تتسم بالتنمية السياسية...ونتابع...
(عن صحيفة الأهرام
المصرية 1 تشرين الثاني/ نوفمبر 2014)