هل يُعقل أن نحتفل بالاستسلام والاستعباد للمحتل البريطاني الذي قرر إدخال الجيش المصري(كأحد رعاياه)، وكأنه أحد فيالقه المقاتلة التابعة للجيش البريطاني العظيم العابر للقارات في الحرب العالمية الأولى جنباً إلى جنب مع
قوات الحلفاء (أغسطس 1914)، حيث لا ناقة لنا ولا جمل في تلك الحرب، بينما تتصارع وتتنافس القوى الكبرى الاستعمارية الأوروبية على الهيمنة على باقي شعوب العالم ومص دمائها وهى حيّة ، ولم نجن منها أي منفعة سياسية أو اقتصادية، بل على العكس تمّ رهن مواردنا واقتصادنا ومطاراتنا وقواتنا وعتادنا العسكري تحت إمرة وتصرف قوات الحلفاء (بريطانيا وفرنسا وروسيا)، ذلك أنه قد تم تقسيم الوطن العربي والمشرق الإسلامي(آسيا وإفريقيا) قبل انتهاء تلك الحرب إلى كيانات صغيرة متقطعة الأوصال، غنائمَ للاستعمار الغربي المنتصر بموجب اتفاقية" سايكس بيكو" عام 1916، وكانت إيذاناً أيضاً بزرع أول بذرة للكيان الصهيوني في أرض فلسطين، بموجب وعد بلفور المشؤوم 1917، وتدنيس القوات الإنجليزية أرض فلسطين والقدس الشريف، لتكتمل المؤامرة بوجهها القبيح، حيث ورث الغرب الأوروبي الصليبي تركة رجل أوربا المريض (تركيا العثمانية)، كما كانوا يخططون منذ عقود طويلة خلت، فقد شاركت مصر بانضمامها لمعسكر الحلفاء في آخر طعنة لخاصرة الخلافة الإسلامية العثمانية، المظلة التي كنا ننضوي تحت لوائها لأربعة قرون كاملة، انتهت بسقوط الخلاقة نهائياً في سبتمبر 1923.
احتفلت القوات المسلحة
المصرية بذكرى مرور 100 عام على مشاركتها في الحرب العالمية الأولى.. رفع علم مصر إلى جوار أعلام الحلفاء، تقديراً لتضحياتها من أجل الحضارة الإنسانية ..هكذا كان العنوان الرئيسي العريض في صدر صحيفة الأهرام الرسمية العريقة بتاريخ الثاني عشر من نوفمبر الجاري؛ حيث نظمت الاحتفالية هيئة البحوث العسكرية ودعت وزير الدفاع ومساعد وزير الدفاع ورئيس الاتحاد العربي للمحاربين القدامى، فأيّ مناسبة تدعو للفخر والعزة من أجل الحضارة الإنسانية بمقتل أكثر من ثمانية ملايين في أربع سنوات هي مدة الحرب ؟! وهل تُعدّ الحرب العالمية الأولي عيداً قومياً أو نصراً عسكرياً عظيماً يستحق المباهاة والفخر، حققناه في معركة الدفاع عن النفس بإرادتنا الحرة ووفقاً لمصالحنا، وليس انقياداً للمحتل الأجنبي الذي يقرر نيابة عن شعب وأمة، متى وكيف نشارك في معركة أو حرب لا نعرف أهدافها ونتائجها أو المكاسب التي قد تعود علينا من ورائها؟.
أكثر ما يُثير الانتباه بل والاستهجان أيضاً ما ذكره اللواء جمال شحاتة رئيس هيئة البحوث العسكرية، التي رعت ونظمت الاحتفالية في الكلمة التي ألقاها قائلاً: " إن الجيش المصري قد شارك مع الحلفاء في 5 أغسطس 1914 لنصرة الإنسانية بأكثر من مليون و200 ألف مقاتل ، وقاتل في ثلاث قارات " آسيا وإفريقيا وأوروبا" ، وكان ترتيبه الثامن من حيث عدد القوات المشاركة ، وأنه قدم أكثر من نصف مليون شهيد في الحرب العالمية الأولى ، ودفن من سقطوا من هؤلاء الشهداء في بلاد مختلفة بمقابر الكومنولث. فأيُّ منطق هذا الذي يدعونا إلى الفخر بمقتل نصف قواتنا تقريباً، في معركة لم تعد علينا بمكسب واحد أو مصلحةٍ واحدةٍ تذكر على أرض الواقع، وقد كنا نرزح تحت
الاحتلال البريطاني الفعلي آنذاك؟! حيث خرجت بريطانيا وحلفاؤها منتصرين وقد حققوا أهدافهم، بينما لم نحقق سوى مزيد من التشرذم والتدهور والتبعية مع بقية بلدان المنطقة العربية.
إن أخطر ما نواجهه الآن هو الزحف الهمجي لتزييف الوعي الجمعي للأمة ولأجيالٍ قادمةٍ، لا يُراد لها أن تدرك الحقيقة في اغتيالٍ واضح للعقل والفكر، وتشويه متعمد لحقائق التاريخ والجغرافيا وتجريف للذاكرة ، حيث يصبح العدو صديقاً وشريكاً، والشقيق خصماً وعدواً لدوداً، عبر تغيير القواعد والمعايير الأبدية الأخلاقية المستقرة في العقل الجمعي العربي والإسلامي عبر التاريخ، لنصبح بعد سنوات قليلة قادمة مسخاً بلا هوية أو تاريخ، لقمة سائغة من السهل امتصاصنا، وبالتالي الانصهار في الحضارة الغربية تابعين خانعين ، والنتيجة النهائية أمة منزوعة الاستقلال والإرادة.. فهل يأتي اليوم الذي نحتفل فيه مع أعدائنا بذكرى نكبة فلسطين 1948، أو نكسة يونيو 1967، أو ذكرى كامب ديفيد المهينة، أو ربما بذكرى هزيمة غزوة أُحد وسقوط الأندلس؟! أرجو من الله أن يقبضني قبل أن أرى ذلك اليوم.