لا جدال بأن ألاحلام الثورية الرومانسية في
مصر قد بددتها الأحكام القضائية الصادرة مؤخرا في 29 تشرين ثاني/ نوفمبر ببراءة الرئيس الأسبق محمد حسني
مبارك ونجليه ووزير داخليته حبيب العادلي، وستة من مساعديه من قضايا القتل والفساد والاستبداد. فقد بدا واضحا منذ الانقلاب العسكري أن المؤسسة العسكرية لن تدع أبناءها رهنا لرغبات وآمال ثلة من ذوي الفطر السليمة والعقول الراجحة المؤمنين يالديمقراطية التشاورية والعدالة الاجنماعية والحرية والكرامة الإنسانية، فمصر مجتمع لا يزال يحكمه العسكر، وهي طبقة لا تعرف شيئا سوى إنتاج وإدارة العنف، فالثورة والإصلاح والسلمية تقع خارج إدراكاتها المتواضعة، وهي تسير من العجز إلى الفشل، لا سيما أن كافة حروبها على مدى أكثر من أربعة عقود كانت داخلية لقمع الشعب وإخضاعه، لكن خبراتها المتراكمة لن تسعفها هذه المرة، فمصر دخلت مع صدور أحكام براءة مبارك ومعاونيه عصر
الجهاد الذي تتنافس عليه جماعة "أجناد مصر" القاعدية و"أنصار بيت المقدس" الدولتية.
لم يتبدل حكم العسكر في مصر مع انقلاب الفريق السيسي بل يتجه إلى مزيد من ترسيخ الدولة البوليسية العسكرية المباركية، فبحسب جوزيف مسعد في ظل المهرجانات الشعبية للعشق الفاشي للجيش، فإن من يحكم مصر الآن هو ذات الجيش الذي عين قادته مبارك والذي خدم نظام مبارك، ويرأسها قاض عينه مبارك، وتتسلط عليها قوات الشرطة نفسها التي استخدمها مبارك. الناس أحرار في تسمية ذلك انقلابا أو لا، ولكن ما عليه مصر الآن هو مباركية دون مبارك، وقد أصبحت عقب أحكام البراءة مباركية بمباركة مبارك.
برهنت ثورة 25 يناير على أن الثورة الإصلاحية في أطوارها الانتقالية لا تمتلك القدرة والفعالية للتأثير على قوى "الثورة المضادة" المتحصنة في أبنية الدولة التسلطية العميقة، التي تعمل من خلال رموزها في النظام التسلطي على إعادة التموضع لإفشال وتخريب الثورة، فعملية اختراق السلطة الإنتقالية من قبل محترفي السياسة أو رجال أعمال أو محرري وسائل الإعلام أو أعضاء الأجهزة الأمنية أو العسكرية أو رجال القانون وغيرهم، لا تتطلب جهدا كبيرا للتلاعب بالرأي العام تحت ذريعة حفظ النظام وتأمين الاستقرار.
لقد ظهر جليا أن الانقلاب العسكري كان يسعى إلى إعادة إنتاج السلطوية، فالانقلاب على الثورة التي جاءت بالإسلاميين إلى الحكم وفق آليات ديمقراطية تمثل "إرادة الشعب" بانتخابات حرة نزيهة من البرلمان إلى الرئاسة مرورا بالدستور،كان يعي طبيعة "الثورة" الحقيقية التي تستهدف في وجدان الشعب المصري التخلص من أبنية الدولة الاستبدادية العميقة وآلتها القمعية العسكرية البوليسية الأمنية، واكسسواراتها الإيديولوجية السياسية والقانونية والإعلامية، ولذلك فقد تفتق عقل "الثورة المضادة" بقيادة السيسي الذي جمع الفرقاء الخاسرين محليا وإقليميا ودوليا عن صناعة "ثورة" ملونة تستند إلى دكتاتورية "شرعية الحشود" في 3 يونيو/ حزيران 2013، المسندة من قبل أجهزة الدولة القمعية والإيديولوجية العميقة تؤسس لعودة الدولة العسكرية الأمنية في 3 تموز/ يوليو 2013 بحجة إنقاذ الثورة والديمقراطية التي استولت عليها "الفاشية" الإسلامية، من خلال تبنى استراتيجية "الحرب على الإرهاب".
واجهت فعاليات قوى الثورة في مصر معضلة حقيقية عبر محاولة الجمع بين فضائل النهج الثوري والنهج الإصلاحي، وتجنب رذائل النهجين، ولذلك التبست مسالك فهم وتفسير "الحدث"، وتكشّف الواقع عن ثورة تنشد إصلاح مؤسسات الأنظمة "السلطوية" السابقة دون الوقوع في سلبيات التطرف الثوري، والحفاظ على الأمل بإنجاز تغيرات جذرية حقيقية، إلا أن هذا النهج المزدوج كان يمكن أن ينجح في ظل غياب قوى "الثورة المضادة" التي تتحصن في قلب المؤسسات الحيوية للدولة وتتمتع باسناد قوى دولية وإقليمية تخشى أن تتضرر مصالحها أو تخاف أن تطالها حمى الثورات.
تكشفت رهانات المؤسسة العسكرية في مصر للسيطرة والهيمنة وفق استراتيجيات احتكار العنف والتسمية، فقد تلاعبت بكافة الأطراف المعارضة لحكم "
الإخوان" وفي مقدمتها القوى الليبرالية ممثلة بجبهة الإنقاذ، والحركات اليسارية ممثلة بحركة 6 إبريل، والإسلامية ممثلة بمؤسسة الأزهر وحزب النور السلفي ومصر القوية المنشق عن الإخوان، وحركة تمرد الشعبية المختلطة، ونادي قضاة مصر، والكنيسة القبطية. فخطة الانقلاب العسكري بقيادة السيسي كانت واضحة منذ البداية وبتنسيق مع فلول الحزب الوطني المباركي وباسناد الإعلام الخاص والمال الخليجي بالتخلص من التيار الإسلامي وممثله الأبرز جماعة الإخوان المسلمين التي باتت "إرهابية" وذراعه السياسي حزب الحرية والعدالة، وحزب البناء والتنمية التابع للجماعة الإسلامية،والأحزاب السلفية كحزب الفضيلة والأصالة والدعوة السلفية، والأحزاب الإسلامية المدنية كحزب الوسط والحضارة.
عندما قرر مجلس وزراء الانقلاب المصري في 25 كانون أول/ ديسمبر 2013 اعتبار جماعة الإخوان المسلمين جماعة إرهابية وتنظيمها تنظيمًا إرهابيًا، كان يؤسس لمرحلة جديدة تقطع مع مسارات الديمقراطية وتدشن نوعا حديثا من الفاشية المركبة، ويكشف القرار عن بؤس إدارة العملية الانتقالية التي اتخذت منذ 3 تموز/ يوليو 2013 من شعار "مصر تحارب الإرهاب"، نهجا وبرنامجا لتصفية الخصوم والمناوئين والناشطين السياسيين.
لقد تعاقبت على جماعة الإخوان المسلمين أطوار عديدة من القمع والبطش، إلا أنها حافظت على نهجها الإصلاحي السلمي،رغم تعرضها للمحاصرة والملاحقة وطورت من نهجها السياسي والاجتماعي، وحسمت خياراتها تجاه الديمقراطية والتعددية والمواطنة، فالجماعة تصر على نهجها السلمي وتثبت خيبة الرهانات بدفعها لسلوك نهج عنيف، إلا أن مصير الجماعة مع إصرار الانقلاب على استكمال سيطرته ونهجه السلطوي العسكري والمضي في سياسات الاستئصال وغياب نهج مشمولية الاندماج يبشر بأفول نهجها السياسي وجاذبيتها التاريخية، وسيدفع بالأجيال الشابة إلى خيارات عنفية صريحة باتت أكثر جاذبية بعد فشل الخيارات السلمية، فالحركات الاحنجاجية الجديدة ضد قرار براءة مبارك ومعاونيه وعودة الحكم العسكري ستواجه بمزيد من العنف والاعتقال والقتل.
هكذا فإن مصر تكون قد دخلت عصر "الجهاد" فالحواضن الشعبية باتت جاهزة لتوفير شبكات حماية وإسناد للخيارات الراديكالية، وهي تسير على خطى سوريا والعراق واليمن وليبيا، والجماعات السلفية الجهادية بدأت تتنافس على استقطاب الثوريين الغاضبين، الذين تتدرج خياراتهم وتتدحرج باتجاه الجهادية العالمية، في هذا السياق ستظهر جماعات عديدة لكن التنافس سبكون بين تنظيم القاعدة المركزي بزعامة المصري أيمن الظواهري وبين تنظيم الدولة الإسلامية بزعامة أبو بكر البغدادي، وإذا كانت جماعة "أجناد مصر"، لم تحسم خياراتها بمبايعة الظواهري، فإن "أنصار بيت المقدس" سارعت بمبايعة البغدادي.
لقد ساهمت عملية عزل ومحاصرة وإضعاف جماعة الإخوان المسلمين في مصر في بروز سردية إسلامية جهادية مصرية أشد صلابة وأكثر تمسكا بحدود العلاقة الصراعية الوجودية مع النظام الإنقلابي المصري، فالتعامل مع جماعة الإخوان باعتبارها حركة إرهابية ساهم في تصاعد نفوذ الجهادية العالمية في مصر، فرفض التعاون مع حركات إسلامية أكثر براغماتية يقود إلى بروز أجيال أكثر راديكالية، كما حدث مناطق عديدة، فقد عملت تكيّفات الإخوان مع البيئة المصرية والإقليمية والدولية المعقدة على خلق معادلة صعبة انعكست بتفتيت إيديولوجيتها الإصلاحية، وأضعفت هيكليتها التنظيمية، فقرار الجماعة بالمحافظة على السلمية أدى إلى خسارتها بعض أعضائها المعارضين للنهج الديمقراطي الجديد كأداة للتغيير، حيث بدأ بعض الأفراد الأكثر راديكالية في صفوف الجناح ا"لقطبي" بتسربون إلى صفوف التيارات السلفية الجهادية العالمية.
ظهرت جماعة "أنصار بيت المقدس" إلى العلن في 5 شباط/فبراير 2011، وهي جماعة جهادية عالمية نفذت عدة عمليات ضد مصر وإسرائيل، وقد تحولت إيديولوجية الجماعة تدريجيا عقب الانقلاب العسكري من أولوية مواجهة العدو البعيد متمثلا بإسرائيل، إلى أولوية قتال العدو القريب ممثلا بالجيش المصري وأجهزة الأمن، وقد بايعت الجماعة تنظيم الدولة الإسلامية وأميرها أبو بكر البغدادي مؤخرا، وأصدرت بيانا صوتيا جاء فيه: "نعلن مبايعة الخليفة إبراهيم بن عواد القرشي على السمع والطاعة في العسر واليسر"، كما أصدرت تعميما بتغيير إسمها إلى "ولاية سيناء"، وبثت شريطا مصورا في اليوم التالي لكلمة البغدادي في 14 تشرين ثاني/ نوفمبر بعنوان "صولة الأنصار"، يظهر تطورا فائقا في قدراتها القتالية وكفائتها الإعلامية، يحاكي إصدارات تنظيم الدولة "صليل الصوارم" و"لهيب الحرب"، ويتضمن الشريط لقطات متقنة لعملية "كرم القواديس" التي نفذها التنظيم في 24 أكتوبر/تشرين الأول الماضي مستهدفا نقطة التفتيش العسكرية في منطقة كرم القواديس قرب مدينة الشيخ زويد بشمال سيناء، والذي أودى بحياة 31 عسكريا مصريا.
أما جماعة "أجناد مصر" فقد ظهرت في 24 كانون ثاني/ يناير2014, وأصدرت بيانين، تبنت من خلالهما استهداف قسم الطالبية ومجموعة الأمن المركزي بجوار محطة مترو البحوث، ثم أعلنت الجماعة مسؤوليتها عن استهداف قوات الأمن المصرية في 7 شباط/ فبراير 2014 بعبوتين ناسفتين أثناء تواجدها فوق كوبري الجيزة وإصابة عدد منهم، وأطلقت الجماعة حملة بعنوان "القصاص حياة" ضد الأجهزة الأمنية التي وصفتها بـالقمعية، وجاء في بيان لها أن هذه الحملة تهدف إلى "القيام بواجبنا بالعمل على تطهير بلادنا من تلك الأجهزة القمعية وبتر تلك الطغمة الفاسدة من مجتمعنا وتحرير شعبنا من كل عبودية لغير الله تعالى والمساهمة في تمكينه من إقامة الدولة على ما يرتضيه الله عزوجل في كتابه وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم."
التنافس داخل الفضاء الجهادي العالمي على مصر بدا واضحا عبر سلسة من الإصدارات، فعقب إصدار جماعة "أنصار بيت المقدس" شريطها المتقن "صولة الأنصار"، أصدرت جماعة "أجناد مصر" شريطا بعنوان "القصاص حياة 2"، بتاريخ 27 تشرين ثاني/ نوفمبر، من خلال مؤسسة "الكنانة"، وعلى الرغم من تجنب التنظيم الإشارة إلى أي ارتباط بتنظيم "القاعدة"، إلا أن المضمون الخطابي الإيديولوجي يشير إلى الصلات الوثيقة بتنظيم القاعدة، ويوثق الشريط سبعة عمليات استهدفت جميعها قوات الشرطة على مدار سبعة شهور خلال الفترة بين 2 نيسان /أبريل حتى 20 تشرين ثاني/نوفمبر.
خلاصة القول أن مصر دخلت عصر "الجهاد"، عقب قرار براءة مبارك ونجليه ومعاونيه، واكتمال عقد الثورة المضادة وإحكام قبضة العسكر على كافة أجهزة الدولة السياسية والتشريعية والقضائية، وهي على وشك التحول من دولة عاجزة إلى فاشلة، فالحركات الاحتجاجية السلمية المطالبة بالحرية والعدالة والكرامة على اختلاف إيديولوجياتها اليسارية والقومية والليبرالية سوف تصبح هامشية مع اشتداد الملاحقة والاعتقال والمحاصرة، وجماعات الإسلام السياسي التي تؤمن بالديمقراطية والتعددية سوف تفقد جاذبيتها وفعاليتها مع إصرار حكم العسكر على استئصالها واعتبارها منظمات إرهابية، وبهذا فإن كافة الطرق تؤدي إلى ولوج فضاء الجهادية العالمية وخياراتها الراديكالية المسلحة.