كتب
رضوان زيادة: لا يبدو أن هناك سياسة أميركية مُختلفة تجاه الشرق الأوسط بعد أحداث الربيع العربي، وعلى رغم أن ما حدث في العالم العربي منذ عام 2011 من ثورات شعبية يُعتبر أكبر تَحوّلات سياسية واجتماعية شهدتها المنطقة منذ حصولها على الاستقلال في الأربعينات والخمسينات من القرن الماضي، لم تَتَغيَّر رؤية السياسة الأميركية تجاه منطقة الشرق الأوسط. إذاً كيف يُمكِن تقويم السياسة الأميركية خلال ست سنوات من إدارة الرئيس
أوباما؟
عندما نريد تقويم هذه السياسة، أعتقد أن النتيجة ستكون كلمة واحدة هي الفشل، فشل أخلاقي في سورية، ولا حاجة للاضافة الى ما قاله سفير الإدارة الأميركية إلى سورية السفير روبرت فورد بعد استقالته، قال: «استقلت لأنني لم أعد أستطيع الدفاع عن موقف الإدارة لأنه موقف لا يتفق أخلاقياً مع القيم الأميركية، ولا سياسياً على المدى البعيد لجهة تزايد عدد القتلى والشهداء، وتمدد الأزمة إلى مستوى إقليمي أكبر، وفي الوقت نفسه هو فشل أخلاقي في سورية». وبالمناسبة، فمن رَكَّزَ على الفشل الأخلاقي للإدارة هي مندوبة الولايات المتحدة سامانثا باور المُقرَّبة من الرئيس أوباما والتي كتبت أهم الكتب في التاريخ الأميركي عن المجازر (Genocides) وعندما نستخرج المقاطع التي كتبتها ونُقارِن موقفها حالياً من الأزمة السورية نجد حجم التناقض حيث تقول في أحدث الكتب التي نشرتها في 2009 أن الموقف الأخلاقي يجب أن يَتقدَّم في السياسة الأميركية عندما تُرتكَب جرائم حرب أو جرائم ضد الإنسانية. لكن هذا الموقف يغيب تماماً حيال السياسة الاميركية تجاه سورية في الوقت الحالي. وفي الوقت نفسه هناك الفشل الأمني في العراق. فهذا البلد هو الآن على حافة حرب أهلية. نصف الشعب العراقي لا يرى أن حكومته تُمثِّل وحدته الوطنية وفي الوقت نفسه يتزايد وجود تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام والذي يُعدّ أشدَّ إرهاباً من تنظيم «القاعدة». الى ذلك هناك فشل أخلاقي في سورية، وفشل سياسي في أكرانيا. ومنذ اليوم الأول لولايته كان الرئيس أوباما يُركِّز على إعادة بناء العلاقات مع روسيا وأرسل أحد المُقرَّبين منه كسفير إلى موسكو ولكن وجدنا، بعد ما حدث في أوكرانيا، أن هذه السياسة تتعرض لانتقادات شديدة لعدم قدرة الإدارة الأميركية على مواجهة روسيا في ما يَتعلَّق بمطامعها في أوكرانيا.
ما هي الجذور العملية للسياسة الخارجية للرئيس أوباما؟ أولاً: أوباما لم يكن لديه أي اهتمام سابق بالسياسة الخارجية حتى عندما كان عضواً في مجلس الشيوخ كانت زياراته إلى الخارج محدودة تماماً، وعندما تَرشَّح للانتخابات قام بزيارة إلى إسرائيل والأراضي الفلسطينية، وفي الوقت نفسه لم يكن يحتل أي موقع تنفيذي ولم يكن حاكماً لأي ولاية، وبالتالي انعكس هذا تماماً على تردده في اتخاذ القرارات الرئيسة، ولذلك على مدى ولايتين اختار شخصيتين قويتين لادارة السياسة الخارجية الأولى هيلاري كلينتون والثاني جون كيري. واختيار الشخصين كان لهدف رئيسي هو لأن يُعطي كليهما صلاحية ادارة السياسة الخارجية ولكن بالتأكيد يعود القرار النهائي اليه. ولذلك وجدت كلينتون وكيري موقفهما صعباً عندما لا يحصلان على دعم البيت الأبيض في ما يَتعلَّق بالقرارات النهائية التي يريدان اتخاذها. وجدنا ذلك في الأزمة السورية بشكل واضح عندما قررت كلينتون تسليح المعارضة السورية بالأسلحة النوعية ومساعدتها، وكان موقف أوباما معارضاً بشدة لهذا القرار وهو ما تَكرَّر تقريباً مع كيري في اجتماع لتقويم السياسة الأميركية تجاه سورية حيث كان موقف كيري يدعم توجيه ضربات جوية لإضعاف نظام الأسد وتشجيع المعارضة على التقدم عسكرياً على الأرض ولذلك أتى بمصطلح «Changed Calculation» أي تغيير حسابات الأسد على الأرض وهو ما جوبه بالرفض من جانب أوباما. وبالتالي لم تحصل كلتا الشخصيتين على رأس الديبلوماسية الأميركية على الدعم اللازم في القرارات النهائية.
إذاً، هل هناك تغيير في مُحدِّدات السياسة الأميركية في ما يَتعلَّق بالشرق الأوسط؟ كلنا يعرف طبعاً أن الولايات المتحدة ليس لديها تاريخ استعماري في المنطقة العربية وبالتالي يُفترَض أن يعطيها هذا أفضلية في طريقة صياغة علاقتها مع هذه المنطقة. عندما أتت بعثة لوري كينغ عام 1917 من أجل استطلاع آراء السوريين في بلاد الشام حول مبادئ ولسون في ما يَتعلَّق بحق تقرير المصير، كان التقرير النهائي الذي رُفِع رفض السوريين في تلك الفترة أي شكل من أشكال الانتداب على أراضيهم وبخاصة الانتداب الفرنسي. في البند الثالث من التوصيات النهائية أنه إذا أرادت عصبة الأمم نوعاً من أنواع الانتداب فستقبل سورية بشكل من أشكال الانتداب الأميركي، وكان ذلك طبعاً تحت تأثير مواقف الرئيس ولسون المثالية في تلك الفترة، لكن هذا الموقف تَغيَّر مع دعم الولايات المتحدة المُبكِّر لإسرائيل والذي غير تقريباً صورة الولايات المتحدة داخل المُجتَمعات العربية. إذاً بقيت مُحدِّدات السياسة الأميركية تقريباً هي نفسها وهي الحفاظ على الاستقرار في المنطقة وبشكل رئيسي ضمان إمدادات النفط من دون تغيير الأسعار، وأيضاً ضمان أمن إسرائيل وبشكل رئيسي مكافحة الإرهاب الذي أُضيفَ بعد 11 أيلول (سبتمبر). نجد الآن في خطاب أوباما الأخير في «ويستبوينت» أنه أعاد التركيز على هذه النقاط الأربع بالكلمات ذاتها تقريباً التي استقرت عليها السياسة الأميركية وهو ما يُؤكِّد أن على رغم ثورات الربيع العربي التي كان يُفترَض أن تكتب تاريخاً مُختَلِفاً في طبيعة السياسة الأميركية، فإن هذه السياسة لم تتغير. وجدنا التردد الأميركي في الاعتراف بحق الشعوب في تغيير أنظمتها السياسية من خلال الثورات، حيث كان الموقف الأميركي متردداً بشأن تونس ولم يذكرها الرئيس أوباما إلا بعد شهرين تقريباً في خطاب حال الاتحاد، وفي الوقت نفسه التردد في التعامل مع المسألة المصرية. الموضوع الذي اختلف في ليبيا هو أن الإدارة الأميركية دُفعِت تقريباً للتدخل من جانب فرنسا بشكل رئيسي وبريطانيا، لكن السيدات الثلاث اللواتي دفعن الرئيس أوباما إلى اتخاذ هذا القرار هنّ هيلاري كلينتون وسوزان رايس وسامانثا باور ودفعن ثمناً غالياً تجاه موقفهن هذا. حيث قررت كلينتون الاستقالة وما زال هناك تحقيق في ما يَتعلَّق بموقفها من الهجوم على السفارة الأميركية في ليبيا، ومنعت سوزان رايس من الوصول إلى منصب وزيرة الخارجية. وبالتالي نجد أنَّ الشخصيات الثلاث تتردد في اتخاذ الموقف نفسه من دعم التدخل العسكري في سورية، لأن موقف الإدارة الأميركية بعد ما جرى في ليبيا أَثَّر تماماً في الموقف في سورية.
إذاً، كيف يُمكِن تقويم إدارة أوباما تجاه سورية بشكل رئيس؟ بالأخذ في الاعتبار أنه لم يكن هناك بعد الربيع العربي أي استراتيجية كبرى للتعامل مع الدول المعنية مثل ما جرى في خطة مارشال في اوروبا أو ما جرى في توسيع الاتحاد الاوروبي بدخول دول أوروبا الشرقية حيث لعب الاتحاد دوراً حاسماً في دمقرطة دول أوروبا الشرقية عبر تشجيعها على بناء المؤسسات ووضع الأسس الديموقراطية، في حين تفتقر المنطقة العربية إلى نظام إقليمي تستطيع من خلاله ضبط عملية الانتقال، فجامعة الدول العربية هي التنظيم الأضعف تقريباً. ولذلك نجد الانتقال في تونس يختلف عن مصر وليبيا وسورية واليمن، فليست هناك مبادئ عامة أو مُؤسَّسات تُشجِّع هذه الدول على الانتقال والدمقرطة.
تأخّر الرئيس أوباما تقريباً ستة أشهر حتى آب (أغسطس) 2011 حين طلب من بشار الأسد التنحي
وأعلن أنه رئيس فقد شرعيته ولكن لم تتبع هذه الكلمات الإجراءات الضرورية من أجل تحويل هذه الأقوال إلى أفعال. بعد ذلك، بدأت الإدارة الأميركية التركيز على العقوبات الاقتصادية وبدأت فكرة مجموعة أصدقاء الشعب السوري من أجل دعم بُنِيَ على وهم أن نظام الأسد لن يستطيع أن يقاوم الاحتجاجات السلمية إذا تمَّ تشديد العقوبات الاقتصادية ومنع الامدادات المالية التي تصله من الدول المختلفة. رد فعل نظام الأسد كان الاستمرار في عمليات القتل واقتحام المدن والاعتقالات العشوائية، لكن موقف الإدارة الأميركية لم يختلف فكانت العبارات المستخدمة ذاتها هي التركيز على أن الأسد فقد شرعيته، وهذا هو عدم التوازن بين ما كان يجري على الأرض وبين تقويم واشنطن. وبالتالي كانت الولايات المتحدة على مدى عام ونصف عام حذرة تماماً من اتخاذ أي خطوات إضافية تُغيَّر موقفها مما جرى من سورية.
لقد كانت هناك نافذة لتغيير هذه السياسة مع استخدام النظام الأسدي الأسلحة الكيماوية وهو ما اعتبره الرئيس أوباما خطاً أحمر، لكن الصفقة الغامضة التي تمت في 24 ساعة برعاية روسية من أجل تسليم نظام الأسد هذه الاسلحة ووقف الضربة العسكرية لم تفلح أيضاً في منعه من استخدام أسلحة أخرى مثل غاز الكلور السام الذي يترك أعراضاً شبيهة بالسلاح الكيماوي. لذلك نستطيع القول إنَّ الإدارة الأميركية على رغم وعودها في ما يَتعلَّق بمساعدة السوريين في حقهم في تغيير نظامهم السياسي أو مساعدتهم على وقف هذه الأزمة الإنسانية فشلت فشلاً تاماً على المستويين الأخلاقي والسياسي.
(صحيفة الحياة اللندنية)