منذ عدة سنوات أتيحت لي أنا وزوجي فرصة التجول في مطبخ أحد الفنادق الكبيرة في القاهرة، وكان مديره صديقاً لنا، المطبخ بالطبع متسع ومجهز كما يجب أن يكون في فندق خمس نجوم.
المشهد البشع الذي لازلت أذكره هو أن أحد موظفي المطبخ كان يجلس حافياً ويلتقط حبات الطماطم من الأرض المبتلة بجوار قدمه الحافية، لينتقي منها ما يناسب ويلقي الباقي في الزاوية، وتكونت تحت قدميه بركة من المياه القذرة اختلطت فيها حبات الطماطم بالماء السائل على الأرض وبما لا يعلمه إلا الله من جراثيم!
في ذلك الفندق يقدمون لك الطعام على مائدة أنيقة، وسط موسيقى هادئة ويبتسمون في وجهك في مودة ويضعون أمامك أطباق الطعام المنسقة كاللوحة الفنية بأريستوقراطية نبلاء أوروبا، ضيوف الفندق عادة يشاهدون الصورة الأنيقة الراقية ويتناولون طعامهم مع الموسيقى، ثم يدفعون مبلغاً فاحشاً وهم مبهورون من جودة الخدمة، لكنهم عادة لا يطلعون على قذارة المشهد الذي تخفيه تلك الستارة من الرقي الفندقي.
بالأمس نشرت قناة
مكملين تسريباً كارثياً، كفيل بالإطاحة بحكومات قارة بأكملها، يعترف فيه مدير المخابرات الحربية والمستشار القانوني لوزير الدفاع بجرائم
تزوير وقتل وتلفيق، شارك فيها وزير داخليتهم وقائد القوات البحرية، المشهد الذي ظهر لمجاديب 30 يونيو وثوار الساعات الست هو الحشود التي أجاد خالد يوسف صناعتها سينمائياً، وما ردده مخبرو الإعلام عن وجود سلاح في اعتصام رابعة لتبرير القتل.
لم يلفت انتباهي اعتراف مدير المخابرات الحربية المجرم محمود حجازي بجرائم القتل حين قال "لو كان عندنا شؤون قانونية ما كانش زماننا بنلم جثث دلوقتي"، بقدر ما لفت نظري جملة أخرى قالها شيخ المنصر ممدوح شاهين "إحنا التزوير عندنا على مية بيضا"؛ أي إن المشاهد لأول مرة يتمكن من مشاهدة كواليس العسكر الذين يظهرون أمامه مرتدين أزياءهم العسكرية المزركشة، التي تثير إعجاب صبية ومجاديب 30 يونيو.
وبغض النظر عما تثبته التسريبات من تبرئة للرئيس مرسي ومن إثبات تهم القتل والخيانة العظمى والتآمر والتزوير على عصابة العسكر، فيمكن للقارئ تصور تلك المشاهد بالضبط في كواليس العسكر في عدد من الأحداث المهمة في تاريخ مصر في الستين عاماً الماضية، وكيف جرى تزويرها واستغفال الشعب.
كما في هزيمة أكتوبر التي اعتمد عليها العسكر في استعباد الشعب لمدة 40 سنة، بعد أن كادت تنفجر ثورة حقيقية.
أتصور مجموعة من الجنرالات الفاسدين يجلسون في مطبخ الفندق، ومعهم عدد من الفاسدين وأوامر من السادات نفسه:
- حط مشاهد العبور واعمل لنا كده كام أغنية حلوة خلي الشعب يهيص.
* من عينيا يا أفندم
- وعاوزك تركز على مشهد الأسرى اليهود، حلو ويرفع معنويات الناس عشان نقول إننا انتصرنا.
* تمام، ونعمل كام فيلم ونجيب كام ممثل من الفراودة.
- هايل، هتجيب مين؟
* محمود ياسين ولد ممثل ممتاز، وحسين فهمي يعمل ضابط واهو عينيه ملونة برضه وبيعجب البنات.
ـ طيب حلو، بس خليه يعوج الكاب زي الأفلام الأمريكاني بتاعة الحرب العالمية الثانية، إحنا مش أقل منهم!
* حاضر يا أفندم بس ما قلتش، نجيب سيرة الثغرة والـ 250 دبابة اللي تدمروا في تطوير الهجوم ؟
- نعم؟؟ أنت أتجننت؟ لأ طبعاً، بس لما تيجي سيرة الثغرة قول عليها ثغرة تليفزيونية زي ما الريس السادات قال!
* أوامرك يا أفندم طيب ومشاهد الأسرى بتوعنا؟ الـ 8000 أسير؟
- لا شيلها خالص واخفيها وما تجيبش سيرتها، إحنا عاوزين نقول للناس إننا انتصرنا ونبسطهم!
- اسمع! إوعى تجيب خالص سيرة صور جولدا مائير عند السويس، ولا إننا إحنا اللي طلبنا وقف إطلاق النار، ولا إنه اليهود كان بينهم وبين القاهرة ساعة!
* عيب يا باشا، دا أنا تلميذك، هخلي لك الناس كلها تقول عليه نصر أكتوبر المجيد ونجيب كام محلل من على القهوة يحلل المعارك ويتكلم عن الخداع الاستراتيجي وإننا فاجئنا اليهود .. ما تقلقش يا باشا إحنا التزوير عندنا على مية بيضا .. شغل المعلم لابنه..