كتب
مالك التريكي: في محادثة هاتفية، قبل أيام، قال لي الصديق الكاتب المصري عادل رفعت المقيم في باريس منذ نهاية الستينيات والذي أنجز مع صديق عمره بهجت النادي، تحت اسم مشترك مستعار هو «محمود حسين»، مجموعة من الأعمال الفكرية التي حققت نجاحا في فرنسا — قال لي إن ما لفت انتباههما إبان ثورة 2011 في مصر شعار يقول ما معناه: «
النظام ربما لم يتغير، ولكن الشعب تغير».
السلطة لم تتغير، ولكن
المجتمع تغير. بعبارة أخرى: النظام (الذي كان «الشعب يريد…») لم يسقط، ومع ذلك فإن المجتمع
تحرر!
أعتقد أن هذه هي إحدى أعمق النتائج السوسيولوجيّة الناجمة عن الثورات العربية، إن لم تكن أعمقها وأبقاها وأبعدها أثرا على الإطلاق.
ثورات شعبية لم تحقق (ربما باستثناء الحالة التونسية) أي نتيجة ثورية ولم تؤت الحد الأدنى، ولا حتى الدرجة الصفر، من التقدم السياسي. حيث لا تزال تركيبة السلطة، بنية وثقافة، على بؤسها القديم (بل هي ربما صارت، في الحالة المصرية، الآن أسوأ)، ولا يزال «النظام البائد» هو النظام السائد، كما دأبنا على التنبيه هنا منذ أواسط عام 2012. ومع ذلك، فإن الواضح الملموس في تونس ومصر وليبيا واليمن والبحرين، وحتى في سوريا، هو أن شعوب ما بعد عام 2011 ليست هي شعوب ما قبله. بمعنى أن نفسية المواطن العربي في هذه البلدان لم يعد ينطبق عليها تمام الانطباق تشخيص «سيكولوجية الإنسان المقهور»، حسب التعريف الشهير للكاتب مصطفى حجازي. ذلك أن حاجز الخوف قد سقط سقوطا نهائيا مماثلا في دلالته التاريخية لسقوط جدار برلين. إذ لا بد من التذكر بأن أنظمة الاستبداد العربية ما كانت لتجثم ببلادة الكركدن على صدور شعوبها عقودا طويلة كأنها الأزل لولا سلطان الخوف الذي كان متمكنا من النفوس.
الخوف الممتزج بالهواء. الخوف المستبطن في أعمق الأعماق سواء في وحدة الفرد أم في زحام الجموع. الخوف من البطش الذي كان سمة و«مزاجا»، بل وصلاحية، لدى كل صاحب سلطة مهما كانت دنيا ومحلية، بل وحتى وهمية.
وقد روى لي صديق قبل حوالي سبعة أعوام أنه كان عائدا لقضاء الإجازة السنوية في تونس، على عادة عشرات الآلاف من المهاجرين كل موسم صيف، على متن الباخرة المبحرة من مرسيليا. فوقع مشهد من تلك المشاهد التي كانت من علامات نظام بن علي الدامغة: أخذ أحد ضباط الأمن في إساءة معاملة الركاب وإمطار بعضهم بالشتائم. وبينما كان الجميع منكسين رؤوسهم اتقاء شرّه إذ بمسافر ينفجر غضبا ويطالب الضابط بالتزام الأدب! كانت تلك، كما قال صاحبي، مفاجأة أدهشت بقية الركاب وجعلتهم محتارين متمزقين بين الإعجاب بالرجل (لأنه أثبت أن المذلة ليست قدرا محتوما على أحد) وبين الإشفاق عليه (لأنهم يعرفون أن التنكيل هو مصير كل من ينتصر لكرامته أو كرامة غيره). وظل الناس يرمقون الرجل من طرف خفي عند النزول من الباخرة في تونس متوقعين أن يلقى عليه القبض فور الوصول. ولكن، لدهشة الجميع، لم يحدث شيء من ذلك.
هذه مجرد عينة عن مدى انتشار الخوف وتغلغله في النفوس. ولكن ذلك كان قبل 2011. أما الآن فإن شعور المواطن، خصوصا في تونس، بالندية إزاء كل ممثل للسلطة قد صار هو الشعور العام. بل إنه ربما بلغ في بعض الحالات حد الاستهتار بالقانون والنيل من هيبة الدولة. هذا إضافة إلى أن حرية التعبير، خاصة في شكلها الإعلامي، قد انتشرت انتشارا واسعا (إلى حد الفوضوية أحيانا)، بحيث لم يعد في الإمكان إسكات أي كان، ناهيك عن «تكميم الأفواه»، كما يقال.
حرية التعبير وسلمية التداول على السلطة هما المكسبان الثابتان الملموسان (وربما يكونان المكسبين الوحيدين حتى الآن) في تونس ما بعد الثورة. ولهذا فإن وضع الحريات العامة لن يتأثر سواء آلت الرئاسة أواخر هذا الشهر إلى السيد الباجي قائد السبسي أم إلى السيد المنصف المرزوقي. أما الذين يقولون بوجوب سد الطريق على مرشح حزب «النداء» أملا في إنقاذ آخر ما يمكن إنقاذه من مبادىء الثورة وفي الحيلولة دون عودة نظام بن علي عودة كاملة، فإن مقولتهم مفهومة على مستوى «تسجيل الموقف». إلا أنها مقولة لا-منتجة على مستوى الفعل السياسي. ذلك أن فوز السيد المرزوقي بالرئاسة ثانية لن يمنع عودة «النظام البائد». لماذا؟ لأن نظام بن علي قد عاد أصلا وفعلا منذ أكثر من عامين بشتى الأشكال وعلى مختلف المستويات. عاد برعاية الحكم «النهضوي» واجتهاده، وبوجود السيد المرزوقي أو رغم وجوده.
(صحيفة القدس العربي)