أعتقد أن أهم قرار في مسيرة أي إنسان ما زال يتلقى العلم هو: ماذا أدرس في المرحلة الجامعية؟ أي مادة؟ ولماذا؟ وهل أنا قادر وراغب في دراستها؟ وأين؟ وما هي الفرص التي ستفتحها لي دراسة تلك المادة؟
ولهذا فإنني وقبل أن يكمل أي من عيالي المرحلة الثانوية ببضعة أشهر، أجلس معه أو معها لنتحاور طويلاً، ونستعرض الخارطة الأكاديمية، وقدرات وميول الولد أو البنت، ونحصر مجالات التخصص المرغوب فيها، بحيث تكون لدينا نحو ثلاثة خيارات، ثم نحصي تكاليفها المالية، وبعد ذلك نقوم بعمليات بحث وتقص مكثفة لجوانب المسألة كافة، والجانب الوحيد الذي أمارس فيه الديكتاتورية الأبوية، هو ضرورة أن يكون التعليم الجامعي في مؤسسة غير عربية.
وبحمد الله لا أعاني من عقدة دونية تجاه كل ما هو أجنبي، بل إن احتكاكي بالأجانب، خاصة ذوي الأصول القوقازية الذين احتكروا اللون الأبيض كتصنيف عرقي خاص بهم، مع أن الإنسان لا يصبح أبيض البشرة إلا نتيجة للإصابة بمرض جلدي. المهم أن مخالطتي لهم لعقود في منطقة الخليج وخارجها، زادني اقتناعاً بأنني وغيري من الذين يعيشون في العالم العربي، نتفوق عليهم في كثير من المجالات الفكرية والثقافية، ولكن في مجال التعليم "يفتح الله".
فالتعليم في البلاد المتقدمة أساس التنمية البشرية ومن ثم الاجتماعية والاقتصادية، بينما هو في بلداننا "إبراء ذمة"، ولهذا فقوامه المعلبات ذات الصلاحية المنتهية، ولا أريد لعيالي أو لغيرهم أن يحرزوا تقدير "ممتاز" في الأدب العربي، لأنهم يحفظون معلقة لبيد أو زهير أو طرفة دون أن يفهموا واحداً على عشرة من معانيها كما حدث لي، فأنا نتاج جامعة عربية، ولهذا فإنني أعتبر نفسي عصاميّاً، بمعنى أن معظم حصيلتي المعرفية أتت بجهد ذاتي، بعد مغادرة كرسي الدراسة.
فقد تخرجت في الجامعة مسلحاً ببكالوريوس في اللغة الإنجليزية بمرتبة الشرف، وعندما دخلت الحياة العملية اكتشفت أن إنجليزيتي بمرتبة "القرف"، وطفقت أتعلم تلك اللغة بالإكثار من الاطلاع على نتاجها من أدب وفكر، واكتشفت بعد الإبحار في دنيا الكتب عموماً، أنني أحمل بكالوريوس في الأمية المعرفية، علماً بأن جامعة الخرطوم التي درست فيها، كانت على أيامنا صنو جامعة كمبريدج البريطانية.
وكان بإمكان الطالب في جامعة الخرطوم الانتقال إلى كمبريدج "دون كلام"، وفي المستوى الدراسي نفسه الذي بلغه، ومع هذا فقد كان التلقين و"الحفظ" سبيلي للنجاح فيها.
التعليم الجامعي أهم محطة في مسيرة الإنسان الأكاديمية، ولهذا فإنني أنصح كل من يستشيرني في أمر إلحاق عياله بالجامعات، أن يبتعد بهم عن العالم العربي، وليس مرد ذلك سوء الظن بالأستاذ الجامعي العربي، بل بالنظام التعليمي العربي الذي يجرّد الأستاذ من المبادرة والتجديد والخروج عن القوالب الجامدة، فالجامعات تدار بالطريقة نفسها التي تدار بها مصلحة المجاري أو الأراضي: هرم إداري هرِم (بكسر الراء) وأخطبوطي، كل همه تقصي الالتزام باللائحة، واللوائح كما نعلم درع العاجز ذي الفهم المحدود والقاصر، ولا يعجبهم في اللوائح إلا "لفت النظر" و"الاستيضاح" و"مجالس التأديب".
وهكذا يستطيع موظف ساقط في الشهادة الثانوية، ويعمل في إدارة أي جامعة أن ينشف ريق البرفسورات، الذين سرعان ما يتعلمون أساليب المشي على العجين، لضمان وصول الراتب سالماً إلى الجيوب.
وكما أنني لا أرى بأساً في تلقي التعليم الجامعي في الدول الأجنبية، فإنني لا أرى بأساً في ما يسمى بهجرة العقول، من دول يتحكم فيها عجول، فـ"العقل" بحاجة إلى الرعاية والتقدير والأوكسجين وتخصيص الموارد كي يقوم بواجبه، وما لم يتوفر ذلك فإن العقل يبحث عن البيئة والمناخ الملائمين، ودول الغرب على نحو خاص تحتضن العقول والمواهب.
هل كان من الوارد أن يصبح مجدي يعقوب وزويل وأسامة الباز والطيب صالح ملء السمع والبصر لو اكتفوا بما تلقوه في
الجامعات العربية؟
"كلك نظر"!!