الأحداث الأخيرة التي عرفها الجنوب
التونسي المهمّش في منطقة "ذهيبة" من ولاية تطاوين جنوب شرق تونس على الحدود الليبية هي عنوان فشل منوالات التنمية خلال حكومات العصابات المتعددة التي تداولت على إدارة البلاد منذ خروج المستعمر المباشر وبداية مرحلة الاستعمار غير المباشر.
إعلام العار التونسي لم يدخر مصطلحا لوصف أهل الجنوب الصامد "بالأوباش والمخرّبين والإرهابيين والمهرّبين.."، في خدمة جليلة لدولة النهب المنظم وقد فضحت التسريبات السويسرية الأخيرة جزءا يسيرا من مخابئ عصابة السراق التي قدّرت بمئات المليارات، كل ذلك في صمت إعلامي مريب.
سقوط شهداء وجرحى هو مؤشر على أن "دولة القناصة" لم تهرب مع الرئيس الهارب "بن علي" بل لعل سكوت إعلام العار عن الجرائم العمودية والأفقية التي ترتكب في حق الجنوب التونسي وتواطؤ نخب العار التونسية بإسلامييها ويساريها وقومييها ولبرالييها وما بينهما مع الجلاد إلا مؤشرا فاعلا على نهاية
الثورة التونسية الخالدة ثورة 17 ديسمبر 2010 بيد نخب "بن علي" هذه المرة.
الجرائم الأفقية الممتدة زمنيا تتمثل أساسا في حجم التهميش والفقر الذي تعاني منه هذه المناطق بقرار استعماري قبل خروج المستعمر المباشر وتسليم السلطة إلى الوكلاء في الداخل وهو في الحقيقة جواب مباشر وردة فعل على حجم المقاومة التي لقيها المستعمر في هذه الربوع الصامدة من الوطن العربي الكبير. أما الجرائم العمودية فتتلخص في جواب السلطة القمعية بالرصاص الحي لكل مُطالب بالكف عن التهميش والإقصاء ومن أجل الكرامة والتشغيل، وهي جرائم كفيلة بإشعال الثورة من جديد، خاصة مع العودة السريعة للدولة العميقة ولسياسة البوليس التي دشنها بورقيبة ورسخها بن علي خلال ما يزيد على نصف قرن من دولة الاستبداد.
التهميش إذن هو عنوان دولة الاستقلال المزيف وهو ما خلق حركتين متلازمتين جوابا عن المنوال الاقصائي الذي اختاره المركز لهندسة سياسة الداخل وتحديد وظيقة الأعماق. تتمثل الأولى في التهجير غير المباشر لسكان هذه المناطق ودفعهم إلى النزوح نحو المركز خاصة في العاصمة وتحديدا في أحزمة
الفقر التي تطوق المركز المختنق أصلا. أما الحركة الثانية وهي أبعد مدى فتتمثل في الهجرة إلى الخارج ونحو أوروبا تحديدا من أجل لقمة العيش وإعالة الأهل الذين بقوا في الهامش المهمش.
الحركتان تواترتا بالشكل الذي خلق اليوم أجيالا بكاملها سواء في ما خلفته أمواج النزوح نحو العاصمة من أجيال هجينة تسعى قدر المستطاع إلى الذوبان في البيئة الجديدة أو أجيال من التونسيين الذين استوطنوا خارج الوطن ووجدوا في المنافي بدائل حقيقية عن أوطان طاردة لا يجد فيها المرء كرامته فضلا عن رغيف الخبز المغمس بالحرية.
والحركتان متلازمتان وهما عنوان التصحر الكبير الذي ضرب المنطقة الجنوبية من البلاد التي تعيش من جهة أولى استنزافا كبيرا لثرواتها الباطنية يستفيد منها المركز قبل أن يستفيد منها أبناؤها، ومن جهة ثانية تعرف استنزافا لثرواتها البشرية التي تركت الجنوب التونسي في وضع أشبه بوضع ما بعد الحرب في مناطق أخرى من العالم.
نهب الثروة المادية وهروب الثروة البشرية هو عنوان الجريمة التي ترتكب في حق أهلنا في الجنوب التونسي وهي في نظرنا أكبر جرائم دولة العصابات التي ما زالت تحكم اليوم في تونس بالحديد والنار وبالقناصة والرصاص، وهي تعلم أن المحاسبة لن تطال أحدا من المجرمين بسبب فساد قضاء بن علي الذي ما زال ساهرا على ترسيخ دعائم دولة الظلم المؤذن بخراب العمران.
جنوب تونس وواقعه المرير من تفشي للبطالة والمخدرات وانتشار للقبضة الأمنية والعسكرية التي لا تطال إلا النشطاء والمدونيين والمدافعين عن الحرية والكرامة مثل ابن شهيد المؤسسة العسكرية "ياسين العياري"، ولكنها لا تطال عصابات التهريب الحقيقية التي تتمركز في الموانئ والمطارات والمناطق الحدودية في تدمير ممنهج للاقتصاد الوطني ولدعائمه الرئيسية، أو تلك التي هرّبت ملايين المليارات من قوت الشعب وعرقه إلى البنوك السويسرية. ففي وقاحة منقطعة النظير يتهم إعلام العار في تونس أهل الجنوب بالمخربين بعد أن اتهمهم العجوز التسعيني بالارهابيين وقبلهما بن علي "بالعصابات" وزاد سفيره وبوليسه في اليونيسكو بأنهم "أوغاد وأوباش متطرفون".
خطاب الإرهاب الإعلامي هذا ليس جديدا على أنظمة الاستبداد العربية؛ بل هو في جوهر وعيها بنفسها وبالجماهير المحيطة بها لأنها تتكون في أصل نشأتها على احتقار الآخر وخلق صورة الأنا المنتفخة إلى حدود التورم، لكنه لا يعلم أن هذا الخطاب في الحقيقة هو الدعامة الأساسية للعنف والتطرف الذي يصنعه إعلام بن علي.
لسنا نشك لحظة في أن "المسألة الجنوبية" هي بصدد النشأة والتشكّل في تونس رغم تنكر نخب الجنوب النازحة نحو أضواء الشمال لهموم أهلهم الذين لا يرون فيهم سوى أرصدة انتخابية متى دعت الحاجة إلى ذلك. لكننا نتمنى أن يعي العقلاء في الوطن أن مسألة الوحدة الوطنية مسألة مصيرية لمستقبل البلاد، وما لم تسارع الدولة بتحقيق قدر أنجع من العدالة التنموية فلن نستغرب تطور الأمور إلى ما هو أخطر على غرار تجارب عربية أخرى غير بعيدة عنا.
الجنوب عامة وليس الجنوب الشرقي فقط كان ضحية لما يسمى زورا بدولة الاستقلال ولم يحصل أبناؤه منذ ما يزيد على نصف قرن على مركب جامعي واحد أو مستشفى جامعي ليجابه الأمراض التي تفتك به و بسكانه. المصيبة أن هذه المناطق هي مناطق الثروة الحقيقية في البلاد حيث توجد بها أهم آبار النفط و المسطحات المائية لانتاج الملح والفسفاط وغيرها من الثروات التي تذهب نحو الشمال ونحو أنظمة العصابات ومجموعات النهب المنظم لثروات البلاد وخيراتها.
الدرس أمامنا والعبرة واضحة جلية، لأن الظلم المتراكم في أرض الجنوب على مدار عشرات السنين ليس إلا رصيدا ثوريا جديدا قد يدفع إلى انفجار آخر لن يكون حتما كسابقه.