أربع سنوات تفصلنا عن "ذكرى رياح ثورية هبّت من تونس إلى اليمن، كنّا نعتقد أنّها ستبدّد صحراء ليل عربي متشّح بالسواد، لكن وإن اختلفت الأشكال فإنّ المسارات والمآلات تشابهت من ثورة لأخرى ومن بلد عربي لآخر.
اليوم انقشع غبار الرؤية واتضّح لنا أنّ عواصف الانقلابات والثورات المضادة، جعلت ممّا يفترض أنّها ثورات عربية صيرورات دون أفق ثوري، حين عجزت عن تحقيق أدنى أهدافها ألا وهو الإطاحة بالنّظام العربي الرّسمي الذّي ضمن سيرورته على حساب صيرورة الثّورة.
الانقلاب على الثّورة في تونس بدأ انقلاباً على مفهومها
دستة من المفاهيم التّي حايثت بدايات تشكّل المسار الثّوري في تونس يجب أن تخضع للتدقيق والمراجعة :
أوّلاً مفهوم الثّورة، الثّورة في المنظورين السياسي والاجتماعي هي فعل حركة في التّاريخ يجبّ ما قبله، وهي مسار متكامل يقع في خضمه استبدال منظومات ونظم بغيرها يؤسّس لها الفاعل الاجتماعي المنجز للفعل الثّوري، ولا يتسنّى لنا توصيف وفهم الظّاهرة الثّورية من عدمها إلا حين تأخذ الذّات الباحثة مسافة كافية عن موضوع بحثها، وفي اللّحظة الرّاهنة بعد مهزلة الانتخابات التشريعية والرئاسية في تونس بات من المدرك أنّ استبدال هذه المنظومات والنّظم لم يقع، بل عاد حزب الدّستور بشرعية انتخابية انقلابية نكوصية على المجرى الطبيعي للثورة.
ثانياً: ثورة 14 جانفي، إن كان هناك لبس في أنّها ثورة من عدمها فهنالك أيضاً لبس كبير فيما يتعلّق بالتّاريخ والتّأريخ، لا سيما أنّنا ندرك جيّداً أنّ الثّورات تؤرّخ ببداياتها وبداية الزخم هو 17 ديسمبر وليس 14 جانفي 2011.إن الجنوح إلى هذا التّاريخ تمّ لاعتبارات أيديولوجية فرضها على متبنّيه النظر إلى الواقع من ثقب الإبرة النّظري، وأقصد تشديدهم وتوكيدهم على البعد المدني للثورة التّونسية اعتقاداً منهم أنّ الفاعل الذّي ترشّحه الأدبيات السياسية الكلاسيكية هو البروليتاريا، وهؤلاء لا يوجدون إلا في المدن (المظاهرات التّي أطّرها اتحّاد الشّغل في صفاقس وتونس)/ رغم أنّ المنطلق كان من شباب مدن الغبار وأحزمة الفقر بالوسط التونسي (سيدي بوزيد،القصرين،قفصة....)
ثالثاً: ثورة شعب، أعلى نسبة مشاركة شعبية كانت في الثّورة الخمينية أواخر السبعينيات، وصلت تقريباً إلى 7% من عموم الشّعب الإيراني، في حين لا تتجاوز في تونس 5% لكنّنا نجد البعض يتحدّث على أنّها ثورة شعبية، ممّا أعطى المشروعية لمن لم يشارك أو من كان ضدّ التغيير والثورة في أن يتحدّث عنها وباسمها. حركة الاحتجاج لم تقدها لا الترويكا وحلفاؤها ولا أحزاب الدّيكور والكرنفالات الانتخابية بل شارك فيها من تضرّروا من سياسات النظام ووكلائه وعرّابيه.
توازي المسارات: مسار الالتفاف ومسار الانقلاب
فرّ بن علي إلى المملكة العربية السعودية واعتقد الكثيرون أنّ بهروبه ستنتهي معاناة شعب عانى من التفقير والتجويع وانتهاك الحريّات، لكن ما راعنا سوى أن يتمّ تنصيب حكومة ثورة "لا ثورية" تحت مسمّى الالتزام بالدّستور، الدّستور نفسه الذّي جعل من بورقيبة رئيساً مدى الحياة، والدّستور نفسه الذّي مكّن بن علي من أن يسير على منهج سلفه في تمديد وتمطيط مدّة حكمه، مستنداً على جهاز بوليسي قوي يخمد كلّ صوت معارض.
عيّن محمد الغنّوشي رئيساً للحكومة و فؤاد المبزّع رئيساً للجمهورية، ومن هنا خرجت الثّورة التونسية من مسار التشكّل إلى تشكّل المسار "مسار الانقلاب"، باعتبار أنّ هذين الشخصين كانا من الرموز البارزة في حزب السّلطة حزب الرئيس الفارّ.
ستتشكّل في هذه المرحلة هيئة تحقيق أهداف الثّورة والإصلاح السياسي، ونحن نعلم أنّ من يقف وراءها فرنسا وحزب فرنسا في تونس، بوجود الكثير من الوجوه في هذه الهيئة المنتسبة لليسار الفرنكفوني والفرنكوفيلي النّاطق بلغة موليار . فرنسا لن تتخلّى عن مستعمراتها القديمة حتّى وإن تخلّت عن الكولونيالية المباشرة، وما تونس إلاّ الحديقة الخلفية والمتنفّس الجيوسياسي للأخت الكبرى فرنسا.
بعد حكومة الغنّوشي ستولد حكومة ثانية من رحم النّظام يتزعّمها الرئيس الحالي "الباجي قايد السبسي"، وهذه الفترة على ما أتذكّر عرفت تعدّداً للقلاقل والاحتجاجات التّي تخمد في كلّ مرّة عبر العصا الغليظة وقنابل الغاز تحت مسمّى "هيبة الدّولة".
الترويكا: الأيادي المرتعشة لا تقدر على البناء كما أنّ الجبناء لا يصنعون التّاريخ
بعد فرار بن علي تمّ الإفراج عن قيادات الإسلاميين الذّين ضجّت بهم سجون نظام السابع، كما عاد الكثير منهم من المنفى وعلى رأسهم الشّيخ راشد الغنّوشي الذّي كان مقيماً في بريطانيا. في المقابل عاد المنصف المرزوقي من فرنسا ليؤسّس مع مجموعة من المناضلين السياسيين حزب المؤتمر من أجل الجمهورية.
بعد انتخابات المجلس الوطني التّأسيسي التّي شهدت فوزاً ساحقاً للإسلاميين، ستتحالف حركة النّهضة مع حزب المؤتمر، مع التحاق طرف ثالث وهو حزب التكتل من أجل العمل والحريّات وسيتمّ تشكيل الحكومة برئاسة حمّادي الجبالي وإسناد رئاسة الجمهورية للمنصف المرزوقي، ورئاسة المجلس التّأسيسي لمصطفى بن جعفر.
كان من المنتظر أن تعبّر هذه الحكومة المنتخبة عن روح الثّورة وأن تلتزم بوعودها للشباب الذّي كان جزاء سنّمار في انتظاره. لم تستطع الترويكا معالجة الملفات الحارقة من قبيل تفعيل آليات العدالة الانتقالية، ومحاسبة بارونات السياسة والأعمال الذّين أثروا بغير موجب حقّ، كما ظلّ الانسياق وراء منوال تنموي مرتكز على اللّبرلة مفقّر بالضرورة للجهات والفئات الأكثر هشاشة على حاله، علاوة على ذلك ظلّت حالة التّبعية للأجنبي على حالها ولم تراجع الاتفاقيات المبرمة في السّابق، بل عزّزت باتفاقيات أخرى عزّزت الاكتساح الاقتصادي الخارجي لتونس.
في رحم هذا النكوص عن أهداف المسار الثّوري، أعاد حزب السلطة تجميع شتاته مغيّراً اسمه ومحافظاً على خصائصه البنيوية نفسها، وقد عزّز حضوره فشل الترويكا وخاصة حركة النهضة في إدارة شؤون الحكم وجبنها خاصة في ما يتعلّق بالمحاسبة، ويمكن أن نعزو هذا لخوف الإسلاميين في تونس من تكرّر السيناريو المصري، وبالتّالي راهنوا على التّوافق مع جلّاد الأمس عوض المراهنة على الشباب الذّي كان حطباً ووقوداً للمسار.
حزب السّلطة يعود !!
يذكر غالي شكري أنّ الثّورة المضادة لا تعرّف بالألف واللّام لأن هناك جملة من الثّورات المضادة، وهو ما يتطلّب منّا وعياً تاريخياً حاداً، حتّى نفهم دينامية عودة حزب السلطة للحكم من منظور تاريخي.
في سنة 1920 أسّس عبد العزيز الثعالبي الحزب الحرّ الدستوري، لينشقّ عنه الحبيب بورقيبة في الأربعينيات مؤسساً الحزب الحرّ الدّستوري الجديد.
بعد اجتثاث اليوسفيين سيغيّر الحزب اسمه في الستّينيات إلى الحزب الاشتراكي الدستوري، ثمّ في الثمانينيات إلى التجمع الدستوري الديمقراطي، واليوم إلى نداء تونس.
تاريخياً هذا الحزب يغيّر اسمه بعد الأزمات التّي تعصف بتونس من حين لآخر تقريباً مرة كلّ 25 سنة، وهذا ما ضمن له ديمومته غير أنّ هذه الخدعة لن تنطلي على عاقل. المنظومة لم تعد كما يروّج البعض لذلك، بل هي موجودة معنا في وعينا وفي لا وعينا وفي ماضينا وحاضرنا.
مازالت اللوبيات نفسها هي التّي تحكم، ومازال أخطبوط المصالح والعلاقات الضّيقة مهيمناً، وهي الثّقافة التّي أسّس لها حزب السّلطة في تاريخه.
أفضت انتخابات 2014 إلى عودة التجمعيين إلى الحكم بشرعية التّوافق مع الإسلاميين، وقد ناهز عدد النّاخبين الثلاثة ملايين من مجموع 8 ملايين تتوفر فيهم صفة النّاخب، وهو ما يقودنا إلى ملاحظة رئيسية: الشرعية الانتخابية بهذا المعطى العددي هي شرعية مبتورة لا سيما أنّ من صوّتوا للتجمع لا يتجاوزون 1700000.
إن عودة التجمّع بواجهته السّياسية الجديدة "نداء تونس" ساهمت فيه نعرة الهوية، وخاصة اللّعب على وتر الحساسيات الاجتماعية تحت مسمّى مشروع مجتمعي حداثي، يقابله مشروع مجتمعي رجعي وهو قمّة الضّحك على الذّقون؛ لأنّ الشّباب الذّي ثار لم تشغله هذه المسائل، بل كان شعاره المركزي "التّشغيل استحقاق يا عصابة السرّاق".
عادت عصابة السرّاق وتأكّد لنا أنّ الربيع العربي كان ربيعاً للأنظمة، لا ربيعاً للشعوب، وأنّ الثّورات العربية لم تتعدّ كونها زوبعة في فنجان.