تسمية الهزيمة بغير اسمها لا يجعل منها انتصارا. فالتسمية لا تغير طبيعة المسمى إلا لمن يريد ممارسة خديعة ذاتية لوعيه بالأشياء في زمنها ومكانها. اكتب هذا بعد الاطلاع على كثير من التقييمات السياسية الداخلية والخارجية لما يسمى بنجاة
الربيع العربي في
تونس من المصير الأسود الذي انتهى إليه في مصر وسوريا واليمن الذي كان سعيدا. فالجميع يروِّج لانتصار عبقري ولكن هل الانسحاب من معركة دون حسمها يعتبر انتصارا؟ الآن وقد أمسكت كل يد بما وصلت إليه نسأل ماذا بقي بيد الصف الثوري (الذي صار محتاجا بدوره إلى إعادة تعريف دقيق) ليتحدث عن انتصار. إلى حد المرور إلى السؤال الجوهري هل له الحق في خديعة الناس بوهم انتصار يوهن عزائمهم في ما يمكن أن يكون معركة قادمة لتكملة ثورة لم تكتمل؟
استعادة النظام القديم لسلطاته وأساليبه
أسفرت انتخابات 2014 عن استعادة النظام القديم للسلطة بمختلف أجهزتها. فأسفر بسرعة عن وجهه الذي لا يملك غيره وهو تجاوز الدستور وامتهان النص والمؤسسة عبر مركزة السلطة بيد الشخص الوحيد نصف الإله. إذ تحولت السلطة التنفيذية في الساعات الأولى إلى الرئيس ومارس قبل تعيين الحكومة صلاحيات سلطة تنفيذية وأخذت تتوسع بالتدريج إلى حد تحويل الحكومة القائمة الآن إلى ساعي بريد يعلن عن قرارات الرئيس ويمهد لتحركاته القليلة من حسن الحظ بحكم حالته الصحية المزرية. فضلا عن تغيير شكليات البروتوكول والجلسة بما يستعيد كل ممارسات النظام السابق بالصوت والصورة كما لو أن شيئا لم يقع في القصر وحوله. وللإمعان في استعادة المكان وسلطته نظر إلى ممارسات الانفتاح السياسي التي مارسها الرئيس
المرزوقي على أنها من أعمال البداوة والوحشية التي يجب مسحها من الذاكرة. إنها استعادة بالإرغام والتشفي. وليس للتقدم بالعملية الديمقراطية طبقا لما اتفق عليه في نص الدستور. في أثناء ذلك شغل كتلته النيابية بما هي مختصة فيه قبلا الصراع على مناصب وغنائم داخل البرلمان وخارجه.
الصف الثوري يزعم الانتصار
فيما يرى هذا الصف المنتمي لفظا إلى الثورة السلطة بجميع مفرداتها تتسرب من يده كالماء يعلن انتصارا لا وجود له إلا في خياله. والحقيقة أن انتصاره الوحيد هو النجاة بجلده حتى الآن من التصفية الجسدية والسياسية كما كان يفعل به النظام قبل الثورة. فهو في الحقيقة عاد إلى المربع الأول لكن لم يدخل السجن بعد. هل سيدخله النظام العائد السجون والمنافي. أجزم أن نعم وأن الأمر مسألة توقيت وتكييف قانوني سيأتي أوانه فالدكتاتورية الغاشمة لا تملك إلا أن تعيد إنتاج نفسها وممارساتها القمعية لأنها لا تملك غيرها ولا تستطيع الاستمرار في الديمقراطية وبها، وكل المؤشرات تنبئ بذلك وهذه بعضها.
• دل التعامل مع تحركات اجتماعية انفجرت في الجنوب بحجة التضييق على التجارة الموازية. على انحراف كامل عن المشروع الاجتماعي للثورة إذ سرعان ما استعادت السلطة خطاب التخوين وسلب الوطنية والتآمر الإرهابي وهو مفردات خطاب نظام بن علي التي دمغ بها كل تحرك شعبي ذي مطالب اجتماعية.
• ماكينة الإعلام المأجورة تواصل العمل بنفس الإيقاع، الترويج لصورة الزعيم الفذ والحط من كل وجه سياسي تسول له نفسه الظهور ثم صرف اهتمام الناس عن تتبع ممارسات السلطة ووضع الصف الثوري في خط النار بما يشتت الأذهان و يحرف الاهتمام عن كل استحقاق سياسي تتطلبه المرحلة.
• التضييق على الحريات الفردية والجماعية عبر مطاردة النشطاء في كل الميادين والبدء بالأفراد المعزولين بلا حماية حزبية وصولا إلى غيرهم في وقت يكون ذلك سهلا ومتاحا. حيث يجري الآن تمييع الشارع وتثبيطه بالإشعار بأن المرحلة الانتقالية قد انتهت وأنه آن أوان شد الأحزمة لعمل طويل النفس يستعيد خطاب الوحدة الوطنية والتوقف عن خزعبلات الأطفال المعارضين. فالمعارضة لم تكن عند الدكتاتورية إلا خزعبلات أطفال أو خيانة وطنية بما يحول تخوين المعارضة إلى إيديولوجية قائمة بذاتها.
مرض الثوريين هو عافية الدكتاتورية.
الثوريون مرضى نعم. هذه أهم نتيجة يمكن الخروج بها من هذا المشهد الحزين. اعتقد الثوريون (وهذا تعبير فيه كثير من المجاز) أنهم قد حققوا كل شيء بإسقاط رأس النظام الفاسد، فارتدوا بسرعة إلى التنافس فيما بينهم على مغانم السلطة وهي عندهم الإمساك بجهاز التحكم عن بعد في المجتمع. لكنهم غفلوا عن أمر مهم؛ أنهم مشتتون ومختلفون وأن النظام القديم لم يفقد قوته ووسائله وخاصة لم ينقطع عن جذوره العميقة التي لم يصل إليها الثوريون أبدا .
من هنا تسرب النظام من جديد. واستعاد ممتلكاته فيما الثوريون يتناحرون بعد عمن سمح بدفرسوار التسلل. وما أسهل ما يرمون بعضهم بعضا بالتهم دون أن يجرؤ أحد منهم على القول إن شتات الأحزاب كما شتات الأصوات الانتخابية كما شتات القدرات القليلة المتاحة هو عين الداء الذي يجب علاجه. خاصة وأن النظام يعرف كيف يزرع الفتنة بالرشوة السياسية والأكاذيب الإعلامية.
الثوريون فاشلون في التنظم وفاشلون في بناء مشروع منتم إلى مطالب الثورة وأهدافها. نوازعهم الفردية الشخصانية والزعامتية أقوى عندهم من نازع العمل على إنجاح الثورة والنجاح بها ومعها.
كان نظام بن علي يعرف ذلك ومن بقي منه يعرف ذلك أيضا إلا الثوريين فأنهم لا يقرون بعيوبهم وفشلهم ولذلك نراهم الآن تائهين يبحثون عن توازن مستحيل وعن تحالفات غير قابلة للبقاء لأنها بكل بساطة تعيش على أمل سخيف تخفيه ولا تعلنه من خجل ومن عجز وسوء نية تجاه شعبها الذي تريد قيادته بالرموت كنترول. وهو أن تستعد فقط لاستحقاق رئاسي ينجم عن موت الرئيس المريض. هكذا كانوا زمن بورقيبة وهكذا كانوا زمن بن علي الذي كان يسرب لهم إشاعات مرضه بالسرطان القاتل كل يوم فيفرحون وينتظرون قطعة الجبن تسقط في أفواههم.
المعارضة الخائنة
بكثير من القسوة أقول إن هذا الصف خان الثورة لأنه لم يكن في مستوى طموحاتها. هذا الصف مكون من مناضلين مختلفي المشارب وأغلبهم يزايد بالثورية وكلهم لم يقرؤوا المرحلة قراءة صحيحة. لذلك أفسدوا من مواقع مختلفة حكم الترويكا وهو كان الحد الأدنى الذي يمكن الالتقاء حوله. ثم ارتعبوا جميعهم من النقابة القوية التي كانت في جوهر عملها حزبا سياسيا مواليا للنظام القديم ومهدت له الطريق وأركبته ظهر الثورة. في حين سكت عنها كل الذين يعرفون هذا الخور ويخافون منه بل استطاب أغلبهم أن تخرب النقابة على الترويكا ليجد في فضلتها غنيمة ما. وها قد نالت النقابة بغيتها فماذا جنى الذين انتظروا فضلتها.
هل كانوا قادرين على قلب المشهد نعم لقد كان بإمكانهم قيادة الشارع ضد النقابة والنظام القديم لكن ذلك كان يعني مهادنة الترويكا وهو ما يعني تهمة التحالف مع النهضة (حزب إسلامي) أو اجتناب مصادماتها. وهنا كانت عقدة هؤلاء. لقد كان أغلبهم يريد أن تغير النهضة النظام وتقدمه له هدية جاهزة لذلك ضغط عليها عوض أن يضغط معها على النظام. وهذا هو جوهر التموقع الخاطئ والخياني.
في حمي التنازع عملت النهضة لحسابها وأنقذت جلدها من المحرقة فتبين أنهم في غيابها ليسوا أكثر من غثاء مشتت لا وزن لهم والانتخابات وزنتهم حق ميزانهم. فعادوا إلى التيه القديم بزعامتهم التاريخية والمستحدثة بالفايس بوك. ولم يعد يمكن واقعيا الحديث عن صف سياسي منحاز للثورة.
هل من أمل ؟
لقد تخلى الحزب الكبير عن المطالب الاجتماعية وانحاز إلى صف النظام القديم وبرر ذلك بإنقاذ سفينة موشكة على الغرق لكنه لم ير أنها غارقة بعد في المظالم والقهر (هذه قراءة أخرى خاطئة للمشهد سنعود إليها لاحقا). فهو الآن جزء من السلطة وقد انحاز ضد شعبه. ولا يمكن الاعتماد عليه لقيادة عمل اجتماعي في العمق.
أما من نصنفهم في صف الثورة ونسميهم مجازا ثوريين فهم ليسوا أكثر من نوايا ثورية مشتتة تحركها زعامات صغيرة فاقدة للقدرة على وضع التصورات والتحالفات الفعالة عبر قراءة حكيمة للمرحلة ومقتضياتها. سيفرح الباقون على قيد الحياة السياسية بحياتهم التي يمن بها عليهم نظام لا يموت لكن تسميتهم (قراءتهم) للمرحلة سيظل خطأ فادحا أنقذ النظام وخرب الثورة لذلك فإن الوفاق القاتل تم ضد الثورة وأن المتوافقين جميعهم منهزمون، ولو رفعوا رايات عالية لانتصار لم يحدث أبدا.