على رغم تمكّن فصائل المعارضة السورية من صد هجومي
حزب الله والنظام السوري في جنوب سورية (
درعا) وشمالها (
حلب)، هناك سمة ما زالت تُثقل على هذه الفصائل في أدائها الميداني، وتتمثل في أن المناطق السورية تخوض حروباً تختلف بعضها عن بعض، ولا يربط بينها سوى أنها تقاتل عدواً واحداً. وحربا درعا وحلب هذا الأسبوع لم تخرجا عن السمة هذه.
جيش النظام السوري والفصائل الموالية لإيران بادرت في كلا الموقعين، والفصائل السورية المعارضة صدّتهم، لكن ذلك لم ينجم عن تنسيق في العمليات ولا عن تعمدها ربط المعركتين، أو إشغال الجيوش الغازية وتحويل قدراتها إلى محاور أخرى. لقد صدّتهم فقط لأنها تمكنت من ذلك، لا لأنها جعلت من الحربين إيقاعاً واحداً.
النظام وحلفاؤه هم من قرّر الانتقال من الجنوب إلى الشمال، فيما لا يبدو أن هناك علاقة فعلية وتنسيقية بين الفصائل في جهتي سورية. والمرجح أن ذلك شكّل، منذ تحوّل الثورة إلى حرب، إحدى نقاط الخلل الرئيسة في أداء هذه الفصائل، سواء في معاركها مع النظام وحلفائه، أو في ضعفها حيال «داعش» وتمكّن الأخير من هضم مساحات واسعة من مناطق نفوذها.
والحال أن تشتّت الحرب إلى حروب كثيرة، ليس وليد عجز هذه الفصائل عن صياغة جبهة واحدة تتحرك وفق معطيات ميدانية منسجمة. فمنذ الأيام الأولى للثورة، كانت السمة المهيمنة على بقع التظاهرات، أننا حيال ثورات عدة ولسنا حيال ثورة واحدة. درعا هبّت لتنتقم لقتلاها الأطفال في حينه، وحماه استرجعت مجزرتها القديمة، وحمص التي حاولت أن تنتصر لشقيقاتها عادت وتُركت وحيدة، وبينما كانت حلب تتأخر عن الالتحاق بالثورة، كانت جارتها، محافظة إدلب، قد طردت النظام من معظم مناطقها.
ثمة صدع وطني خلف هذا التشتّت، فنظام البعث وعلى مدى أكثر من خمسة عقود من حكمه، جعل من سورية سوريات كثيرة. نوّع عنفه وحرماناته، وأعاق احتمال قيام علاقات ومصالح بين المحافظات والجماعات المختلفة. هو اضطهد حماه لأسباب مختلفة عن اضطهاده حمص، وغذى نزاعات بين دمشق وحلب أعاقت تواصلاً بين جماعتي المدينتين. وبينما أهمل الشرق والشمال الشرقي، أي محافظتي الرقة ودير الزور، أجّج لدى سكانهما شعوراً بأن سورية كلها مساهمة في هذا الحرمان وهذا الإقصاء.
البعث لم يسعَ إلى صوغ هوية سورية جامعة، لا بل تولى تبديد ما كان قائماً في الأصل وإضعافه. سورية لم تعرف سورية في ظل البعث، وكانت المسافة بين أهل المحافظات أطول من المسافات بينهم وبين امتداداتهم القريبة خارج سورية. الشرط الأمني وحده هو ما كان خارج هذه المعادلة. أبناء إدلب كانت تركيا أقرب شعورياً إليهم من دمشق، وكان شرط النظام الوحيد ألا يُفضي ذلك إلى خروج عن طاعته الأمنية. الأمر نفسه بالنسبة إلى دير الزور والعراق، ودرعا والأردن. وهذا سهل على البعث أن يتخفف من أعباء مواطنة السكان، ولم يُعق حتى 2011 عمل السلطة التي رغبها البعث لنفسه، والمتمثلة بإخضاع السكان. فقط إخضاعهم، حتى أنه لم يكن يريد إخلاصهم في خضوعهم، بل أراد خوفهم، أي أن يخضعوا لأنهم خائفون منه لا لأنهم مؤمنون به. وما إن زال الخوف فجأة حتى تهاوت سلطة البعث.
لكن سورية غير المتصلة بعضها ببعض، استمرت غير متصلة على رغم تداعي سلطتها، واستمر انعدام التواصل في تغذية النزاعات، وانعكس ذلك على أداء المعارضتين السياسية في الخارج والعسكرية في الداخل. لا بل إن الهيئات السياسية المعارضة في الخارج، (المجلس الوطني ولاحقاً الائتلاف الوطني)، التي سعت إلى صوغ معارضة واحدة، كانت أشبه بكونفيديراليات تفصل بينها مصالح وتطلّعات متباعدة وغير منسجمة. وهنا أيضاً يجب ألاّ ننسى أن جماعة الإخوان المسلمين السوريين، بصفتهم حزباً من المفترض أن يكون عابراً للمناطق والمحافظات السورية، كابد ومنذ نشأته نزعات مناطقية، وشهد انشقاقات جهوية منذ الستينات والسبعينات. هكذا استقلت جماعة دمشق فيه عن جماعة حلب، ولاحقاً هيمن الحمويون على قيادته، وفيما يشعر الحمصيون بأن لهم سبق التأسيس نظراً الى خروج المؤسس مصطفى السباعي من مدينتهم، فإنهم ظلوا خارج القيادة منذ رحيل الأخير.
اليوم، النظام وحلفاؤه وحدهم من يملي على الكتائب المقاتلة حروبها. بالأمس هو من تحرك نحو درعا، ثم عاد وباشر معركة شمال حلب، وهو إذ لم يُحقق تقدماً في كلا الحربين، نجح في إبقائهما حربين لا حرباً واحدة. أما الكتائب المقاتلة في كلا المحافظتين، فعلى ما يبدو لا تربط بينها لا أسماء ولا قيادة ولا تنسيق. ولا يبدو أيضاً أن إضعاف النظام وإسقاطه، كمصلحة مشتركة تجمع بين مقاتلي درعا وحلب، كافيان لإنشاء علاقة بين الجماعتين.
وهنا تحضر مرة أخرى حقيقة طغيان العلاقة بين هذه الفصائل وبين عمقين إقليميين قد لا ينسجمان في إدارتهما لحربي درعا وحلب. ونحن هنا نتحدّث عن الأردن (جارة درعا) وتركيا (جارة حلب)، وهما دولتان قد تجمعهما الرغبة في منع النظام من الانتصار، ولكن تفصلهما مساحات من الاختلاف والتباعد في ما يتعلق بسورية.
النظام وحلفاؤه بدورهم حين توجهوا إلى درعا، قصدوا المنطقة لأهداف ولوظيفة مختلفة تماماً عن تلك التي استهدفوها حين توجّهوا إلى حلب. في درعا، تتمثل المهمة الإيرانية في الرغبة في حجز مقعد على حدود التسوية مع إسرائيل ومع الأردن، فيما هم أرادوا من التقدم في حلب أن يسجلوا خطوة ميدانية مترافقة مع مساعي المبعوث الدولي دي ميستورا، الذي كان في اليوم نفسه يستعد لتلاوة تقرير في مجلس الأمن عن مبادرته حول حلب.
ليس العجز والقصور وحدهما ما يفصل بين الفصائل السورية المقاتلة في درعا وحلب، وما يعيق خوض حرب واحدة ومنسجمة ضد نظام واحد. ثمة حقائق ثقيلة، تاريخية في جزء منها، وراهنة وإقليمية أيضاً. وقد يحتاج تجاوزها اليوم إلى معجزة بحجم تجاوز خمسين عاماً من حكم حزب البعث، مبدّد الوطنية السورية ومعيق انعقادها، ويحتاج تجاوزها أيضاً الى انسجام، يبدو اليوم مستحيلاً، بين خصوم النظام الإقليميين.
(نقلا عن صحيفة الحياة اللندنية)