في مركز الإيواء الذي يستقبل عشرات العائلات القادمة من
الغوطة الشرقية في ريف دمشق، الوجوه تشبه بعضها: حزينة، هزيلة، شاحبة.. ويروي أصحابها قصصا لا تصدق عن الجوع والحرمان على مدى حوالي سنة ونصف السنة من العيش تحت
الحصار.
في باحة المركز الواقع في ضاحية قدسيا شمال غرب العاصمة، اتكأ أبو علي (52 عاما) على فراش ملقى أرضا، وإلى جانبه عصا خشبية، وقال لفرانس برس بمرارة: "كنت أستيقظ كل يوم فجرا مع ابنتي، ونذهب لنبحث في أكياس القمامة عن أوراق خس أو أي شيء يمكن أن نسد به جوعنا".
وأضاف الرجل الذي ارتدى ملابس داكنة، ووضع على رأسه كوفية وعقالا، بصوت مخنوق من شدة التأثر: "كان اسمي "أبو علي" عندما كنت أعمل وأؤمن القوت لأولادي. أما الآن.."، ويتوقف عن الكلام ليمسح عينيه اللتين احمرتا واغرورقتا بالدموع.
هرب أبو علي من
المليحة إلى سقبا، قبل أن يقرر الخروج من منطقة الغوطة الشرقية، التي تتعرض بشكل شبه يومي لقصف جوي ومدفعي وصاروخي، أو تشهد معارك عنيفة بين فصائل الثوار التي تتحصن فيها وقوات النظام التي تحاصرها.
ووجد الموظف سابقا في البلدية، كالمئات غيره من سكان الغوطة وقرى ريف دمشق، مأوى في أحد المراكز التي تشرف عليها وزارة المصالحة الوطنية، والتي تم إعدادها لاستقبال
النازحين الذين وافقوا على الخروج من قراهم برعاية قوات النظام.
في زاوية أخرى من الباحة، تجلس سلمى (35 عاما) على فراش آخر وهي تحضن طفلتها (تسعة أعوام)، وتقول بحسرة: "أصررْنا على الهروب ولو كنا سنتعرض للموت (...) أولادنا في كل حال يموتون من الخوف والجوع والبرد".
ثم تضيف، وقد بدا وجهها شاحبا جدا وعيناها غائرتين: "لم أذق طعم البندورة (الطماطم) والبطاطا والليمون منذ أكثر من عام".
وكانت سلمى، وهي أم لطفلين، تقيم في بلدة حزة. وتعاني مدن وبلدات الغوطة الشرقية، التي تفرض قوات النظام السوري حصارا خانقا عليها، من نقص كبير في المواد الغذائية والأساسية والطبية، ما تسبب بوفاة العشرات من الأشخاص.
ويروي سالم، القادم من دير العصافير، ويكشف فمه عن بعض الأسنان السوداء التي نخرها السوس، قائلا: "كنا نقتات من الشعير وعلف البقر".
وحتى العلف والشعير غير متوافرين بسهولة، ويقول إنه اضطر لبيع مجوهرات زوجته من أجل شراء الشعير الذي بلغ سعر الكيلو منه 1000 ليرة سورية (20 دولارا).
ويتألف المجمع التربوي الكبير، الذي يضم مركز الإيواء، من طبقات عدة فيها غرف وقاعات تم تجهيزها بالحد الأدنى، لا سيما بالفرش السوداء التي يمكن رؤيتها في كل مكان. في إحدى الغرف التي دخلها صحافيو وكالة فرانس برس خلال الزيارة الى المركز التي نظمتها وزارة "المصالحة الوطنية"، كان يمكن رؤية رجل مبتور القدمين، مستلق على فراش، وإلى جانبه كرسي متحرك، فيما ذكر المنظمون أن غرفا أخرى تضم العديد من المرضى.
ويقول أبو المجد، أحد المتطوعين في المركز الذي يؤوي 860 شخصا وصلوا خلال الأيام الماضية، أن بين الوافدين إصابات بأمراض، "لم نعد نسمع عنها في البلاد منذ زمن طويل، كالجرب والسل".
وحذرت منظمة "أطباء بلا حدود" غير الحكومية، الأسبوع الماضي، من أن "الوضع الصحي في الغوطة الشرقية وظروف الحياة عموما تجاوزت كل الخطوط الحمراء".
في الباحة، جلست عائلة تتذوق صحنا من الفول المدمس بفرح ظاهر.
ويقول مصطفى (76 عاما) الذي بدا جسده نحيلا جدا تحت ثوبه الأسود، إنه فقد نحو 40 كيلوغراما من وزنه خلال عامين.
ويضيف الرجل الذي كان يدير متاجر عدة لبيع اللحوم في المليحة: "بعد أن كنت قادرا على تعليق خروف يزن 50 كيلوغراما بمفردي. لم أعد أقوى على حمل أي شيء".
بالإضافة إلى الجوع والمرض، خسر عدد كبير من سكان الغوطة ممتلكاتهم. فقد أدى القصف والمعارك إلى تدمير الكثير من الأبنية السكنية والمحلات التجارية، كما اضطر السكان إلى ترك كل ما يملكونه لدى مغادرة منازلهم التي تعرضت إلى النهب والسرقة.
ويتحسر مصطفى الذي كان يعيل 60 فردا على ما وصل إليه: "كانت حالتي المادية ممتازة، لكنني الآن لم أعد أملك شيئا. تهدمت منازلي ومحالي وتبخر كل ما جنيته في حياتي".
ويضيف هذا السبعيني الذي كان يملك بناء من أربع طبقات في المليحة يضم عددا من المتاجر ومطعما: "لم أحمل معي سوى الوثائق العائلية".
ويرى النازحون أن بعض أفراد الفصائل المقاتلة في الغوطة يستغلون الحصار والحرب لفرض قوانينهم وتجاوزاتهم، فيقوم بعضهم باحتكار المواد الغذائية، وبيعها بأسعار خيالية، وفق ما يقوله النازحون الذين يقيمون الآن في مقر تحت سيطرة النظام السوري.
ويقول أبو النور (50 عاما): "كنا نشتري السيكارة بـ175 ليرة (0,7 دولارا)، بينما العلبة هنا ثمنها 125 ليرة (0,5 دولارا)".
ويقارن السكان بين أسعار المواد التموينية والغذائية في الغوطة تحت الحصار مع أسعار العاصمة، فقد "أصبحت البيضة تباع بـ200 ليرة (0,85 دولارا)، بينما سعرها هنا مسلوقة 30 (0,13 دولارا)، وكيلو السكر يباع بـ4000 ليرة (16,5 دولارا)، وهنا 125 (0,5 دولارا)".
في الوقت الحالي، لا يفكر الخارجون من جحيم الحصار كثيرا بالمستقبل. وتقول سلمى: "كل ما يهمني حاليا هو الحصول على هذا"، مشيرة بيدها إلى كيس من الخبز إلى جانبها.