كتاب عربي 21

جرائم الإعلام وصناعة الإرهاب

1300x600
حقق الربيع الأخير واحدة من أهم المكاسب التاريخية للوعي العربي المعاصر والحديث من خلال كشف الشبكات التي عليها تتأسس الدولة القمعية وتؤسس خطابها الخاص بها. في مقدمة هذه الشبكات يلعب الإعلام والمنصات المرتبطة به أخطر الأدوار في صياغة طبيعة الوعي الجمعي لمختلف الطبقات والمجموعات الشعبية داخل الدول العربية.

فلم يكتف الإعلام الرسمي العربي باستثناءات قليلة جدا بالوقوف إلى جانب النظام الاستبدادي العربي قبل الربيع وبعده ومجاهرة الجماهير العربية العداء، بل إنه تجاوز هذا الدور إلى نشاط أكثر خطورة وذلك بصناعة كل أشكال التظليل والتزييف وخلق حالات نفسية ووجدانية خادمة لمصالح أعداء نهضة الأمة في الداخل والخارج.

التطور الأبرز في الأداء الإعلامي العربي هو تحوله من إعلام السلطة أي باعتباره مكونا هندسيا خارجيا في خدمة النظام إلى مكون وظيفي داخلي هو السلطة نفسها. فالإعلام الانقلابي هو اليوم سلطة ما قبل السلطة وما بعدها، أي أنه يتكفل بالمسافة السابقة لإنجاز السلطة أو للفعل السلطوي وكذلك بالمسافة التي بعدها بصورة خاصة، فيستبق إعلام الاستبداد الإجراءات الاستبدادية (القمعية عادة) على الأرض، ويخلق كل المناخات النفسية الملائمة والتحضيرية مساهما بشكل معنوي هام في الإعداد للفعل الاستبدادي وفي تكريسه.

خذ مثلا الانقلاب المصري على ثورة 25 يناير –لا على الإخوان كما يوهم الإعلام الانقلابي بذلك – فقد قام الإعلام المصري الخاص والعمومي بجهود جبارة من أجل الإعداد للمرحلة الانقلابية، عبر التجييش ضد السلطة الحاكمة والدفع نحو فشل الدولة وشل حركة مؤسساتها في المخيال الجمعي للطبقات الشعبية باعتبارها الهدف الأساسي للمنصات الإعلامية العربية. ثم في مرحلة موالية قام نفس الإعلام المرتبط بمراكز النفوذ المالية الإقليمية والدولية بمصاحبة العملية الانقلابية، عبر رفع حالة الشحن إلى أقصاها وتصوير الآلاف من الذين خرجوا لدعم الانقلاب على أنهم ملايين يطالبون بالحرية والكرامة، في حين يعلم الجميع أنهم مكوّنون أساسا من الجيش والشرطة بملابس مدنية، وأن هذه المظاهرات لم تكن غير مسرحية إعلامية بائسة الإخراج. أما بعد الانقلاب فقد حافظت منصات الإعلام الانقلابية على دعم الانقضاض على الشرعية ومصادرة أحلام الشباب الثائر وبيع دمائهم وشهدائهم، فوصفت المظاهرات الرافضة للانقلاب بأنها تحركات إرهابية وجرائم ضد الدولة وتهديد لمدنية الوطن، إلى غير ذلك من آلاف الأكاذيب التي ثبت زيفها فيما بعد.  

تطور الإعلام الرسمي العربي عبر المراحل الثلاث التي ذكرنا أي قبل الانقلاب وخلاله ثم بعده إلى مكون نشط من مكونات الثورة المضادة، لكنه أصبح اليوم صانعا فعليا للإرهاب رغم ادعائه محاربته في كل منابر الإعلام الانقلابي.

قد يضيق المجال هنا لسرد حيثيات الدور المشبوه الذي يقوم به الإعلام الرسمي العربي في تجفيف منابع الهوية، وفي محاربة كل أشكال الوعي النقدي البناء والخطاب العقلاني القادر فعلا على محاربة مختلف أشكال التطرف والغلو التي يمكن أن يسقط فيها شباب، في بحث دائم عن مرجعية سوية قادرة على الإجابة عن كل الأسئلة الحارقة المتعلقة بأزمة الأمة وحالة الانهيار القيمي والأخلاقي والفكري التي تعيشها المنطقة العربية منذ قرون. 

في المقابل، لا تتوانى نفس المنابر الإعلامية عن نشر كل ما من شأنه أن يزيد في الغربة الفكرية التي يعاني منها الشباب العربي بشكل خاص ويعمق انفصامه المرضي عن الواقع الذي يعيش فيه، فيمارس الإعلام كل أشكال العنف الرمزي الذي يبلغ مرحلة الجلد في بعض الحالات، فيوسع من الصحراء المعرفية التي تخلق كل المناخات المواتية للتطرف والعنف حيث المنابع الحقيقية لما يسميه الإعلام العربي إرهابا.   

حالة الفوضى التي تسم المنطقة اليوم يقع استثمارها بشكل كبير من قبل الإعلام الانقلابي وهو يرى فيها البديل المناسب للأنظمة المتسلطة التي يعتبرها مقارنة بحالة الفوضى خيارا أكثر أمانا، مما يسمح لهذا الخطاب بشرعنة الاستبداد وتصويره قدرا للشعوب العربية التي لا يحكمها إلا حاكم مستبد يمنع عنها الفوضى والخراب المصاحب لكل محاولات التغيير. 

في تونس مثلا، يستثمر ما يسميه التونسيون "إعلام العار الوطني" حالة الفوضى العربية، فيقصف يوميا عبر منابر صنعها "بن علي " ورجاله وعيَ التونسيين بكل أشكال التظليل والترهيب وتبييض الإرهاب الحقيقي الذي تمارسه الدولة العميقة عبر أذرعها النقابية والمالية والأمنية. الإرهاب الحقيقي الذي مارسته دولة الاستبداد خلال عقود يقع اليوم تبيضه من خلال إعلام مدفوع الأجر، وذلك بإنتاج خطاب إرهابي بديل يدفع نحو إنتاج العنف والعنف المضاد في حين تبقى القضايا المركزية للأمة محاور هامشية لا تعار اهتماما.

اليوم نشهد تفرعا جديدا في الأدوار المنوطة بعهدة الإعلام العربي والمتمثلة أساسا في محاربة كل قوى التغيير في المنطقة، وخاصة القوى الإقليمية التي ساندت الثورات العربية، ورغبة  الإنسان العربي في التحرر والانعتاق، وليست الحملة على قناة الجزيرة العربية وعلى دولتي تركيا وقطر إلا جزءا من الأدوار المشبوهة التي يقوم بها الإعلام العربي الذي يستحق فعلا لقب "إعلام العار". 

ليس الإرهاب الذي تهدد به الأمة اليوم وتهدد به ثوراتها السلمية إلا نتاجا نوعيا لكل الخطابات التي أصدرها الإعلام العربي والقوى السياسية المرتبطة، ولن يكون الخروج من الفوضى التي حوصرت بها المنطقة ممكنا إلا عبر تجديد الخطاب الإعلامي وكنس المناصات المرتبطة بمشاريع الاستعمار ووكلائه في المنطقة.