لم ينقطع هذا السجال ولن ينقطع، حول دور اميركا واخطائها في ازمتنا. والامر يتعلق بالعجز عن تصديق حجم البلاء احيانا، وبمحاولة تهدئة الضمير احيانا اخرى.
الاراء العراقية اليوم على قسمين، الاول يحاول ان يفسر انهياراتنا بعامل واحد هو الاخطاء الداخلية، وعلى عكس هذا يحاول اخرون التركيز على وجود"مؤامرة"من الخارج، والقصة بدأت منذ صراخنا بشأن"ضبط الحدود"في 2003، مع الشقيقة سوريا، وصولا الى اتهامنا لواشنطن بانها ترسل السلاح لداعش بالطائرات.
ورغم ان الحكومة كلها تنفي وجود ادلة على هذا، فان عراقيين كثيرين يؤمنون بذلك، ويتحدثون عن ادلة، ويتهمون حتى ابراهيم الجعفري باخفائها. وهذا الاندفاع لمهاجمة واشنطن ليس مجرد كراهية تقليدية لاميركا، بل عجز عن تفسير قوة
داعش. وكيف يمكن لبضعة الاف شخص ان يهزموا ملايين العراقيين، ان لم تكن اميركا تساعد الدواعش؟ (طبقا لتساؤل بعض العراقيين). ان هذا السؤال يحاول الاقتناع بفرضية تهدئ اعصابا ثائرة وعاجزة عن تصديق الحكمة البدوية القديمة التي كانت تقول بوضوح ان اصل العلل في صاحب المصيبة لا في عدوه، بعبارة "يفعل الجاهل بنفسه ما لا يفعله العدو بعدوه".
لم يستطع قسم كبير من العراقيين ان يفهموا الحكاية بهذه المباشرة، فهرعوا الى التفسير الاسهل الذي يلقي باللوم على اميركا. ولكي يعيد العراقي الاعتبار لنفسه ويغطي على الهزيمة فانه يجمع مبررات ويربطها كيفما شاء ليقول لضميره في النهاية: انا قوي لا تهزمني جرذان داعش، لولا ان واشنطن انحازت للجرذان وتآمرت على الخيول الاصيلة!
وليست المحكمة اخلاقية هنا ابدا، ففي صراع الامم لا تلعب الاخلاق دورا اساسيا الا بقدر صوغ عبارات تخلو من البذاءة المباشرة، لكننا ونحن نسأل عن الدور الخارجي وحجم المسؤولية الداخلية عما حصل ويحصل، نريد ان نفهم بهدف ان نضع خطط اصلاح عاجلة ولا نبقى مشاريع سبي وذبح. فاذا واصلنا الكذب على انفسنا فسنتورط في تكرار الاخطاء، وسنموت مرارا دون ان نعلم سببا شافيا للبلاء.
وبغض النظر عما تحدثنا به كثيرا داخل نقاشاتنا الوطنية عن نقص حكمتنا السياسية وضعف ادارتنا وحجم فسادنا، وعن تاخرنا في اصلاح الاخطاء، وان كل ذلك صنع فجوات في الجدار تمر عبره جيوش الذباحين والمغفلين والمتطرفين.. بغض النظر عن ذلك كله، يمكنني ان اتهم اميركا بانها صنعت جزءا كبيرا من داعش.
ولست اتهكم هنا، كما انني لست معاديا للبيت الابيض في العادة، بل من المتمسكين بضرورة تعريف واضح لعلاقة متينة مع الولايات المتحدة بكل المعاني. الا انني اقول للمشاركين في تبادل التهم حول تسليح داعش: ان الاخطاء الاميركية ساهمت بنحو مؤثر في صناعة داعش. وعليكم ان تفهموا هذا جيدا كي تجدوا طريقة لدحر الدواعش.
فطوال سنوات كان الخبراء العراقيون والاميركان يناشدون ادارة اوباما ان تمارس ضغطها المعتاد على فريق نوري المالكي، كي لا يتمادى في الاخطاء التي ستؤدي الى الانهيار. لكن اوباما كان يحب ان يترك المالكي"متمتعا" بالسيادة والاستقلال. بل ان عبارات جرى تبادلها بين واشنطن وبغداد، فهمها المالكي كتشجيع على سياسته ناقصة التدبير والحكمة. وكان صمت واشنطن الغامض مشجعا للمالكي ولداعش ايضا، كي يستفيدا من بعضهما لحشد الطوائف والقبائل، وليرتفع صراخ المجانين من الطرفين ويعرقل كل نوايا تخفيف الاحتقان، حتى حصل الانفجار.
ان داعش بهذا المعنى، استفادت من المباركة الاميركية لجملة من اخطاء المالكي الكبرى، وهذا اخطر من ان تلقي اميركا بالعتاد لداعش، وهي التي تبيعنا كل سنة سلاحا متطورا بالتريليونات.
وليس من المفيد كثيرا ان نجدد الاتهامات، لا للمالكي ولا لواشنطن، لكن فهم ما حصل سيقوم بتذكيرنا بالاهمية التي تنطوي عليها حزمة الاصلاحات المطلوبة، حتى لو كانت على شكل قرارات محرجة امام جمهورنا السني او الشيعي او الكردي. لان تلكؤ الاصلاح هو مساعدة اضافية لداعش، التي لم تهزمنا بسلاح، بل تفوقت علينا بانها اكثر سرعة واقل ترددا واشد حزما واوضح خططا.
(نقلا عن صحيفة المدى العراقية)