كتاب عربي 21

المواجهة بالأدوات القذرة في اليمن

1300x600
ليس هناك أدنى شك في أن خروج الرئيس اليمني عبد ربه منصور هادي من صنعاء، حيث كان يقبع تحت الإقامة الجبرية، قد أحدث تحولاً نوعياً في مسار الأزمة اليمنية التي وصلت حد تقويض الدولة وخلق واقع شاذ لم يعرفه اليمن من قبل، حيث تتسلط مليشيا بلا ضوابط، على مؤسسات الدولة وتفرض نفوذاً ليس له حدٌ أخلاقي، وغايته النهائية إحداث قطع مع مفهوم الدولة المدنية، ومع اجتهادات جون لوك ومونتسكيو وتوماس جيفرسون، واستدعاء نظريات من كهوف التاريخ، تظهر أن جماعات في منطقتنا ما تزال متشبثة بالحق الإلهي في الحكم لفئة بعينها من الناس.

وكان أبرز تأثير أحدثه هذا الخروج هو فقدان الحوار الذي يديره المبعوث الأممي جمال بنعمر، لبوصلته وأهدافه وغاياته، والتي كانت تتمحور أصلاً حول التأصيل للأفعال التي تُقدم عليها المليشيا الحوثية المسلحة بواسطة القوة، وتفرضها واقعاً على رؤوس الجميع.. 

يدفع الحوثيون وحليفهم الرئيس المخلوع صالح، بقوة باتجاه سحب ورقة مشروعية الرئيس هادي، وإعادة قلب الطاولة عليه، وهو أمر يبدو أن الرئيس هادي قد تنبه واحتاط له جيداً أو هكذا تبدو الأمور.. فبعد أن كان هذا الحلف الانقلابي قد قرر إقصاء الرئيس هادي من المشهد السياسي، نهائياً وشرع في خطة ملئ الفراغ الرئاسي، هاهو يقترح إعادة هيكلة مؤسسة الرئاسة، لتصبح مجلساً رئاسياً من عدة أعضاء، والطُّعم هنا يتمثل في قبول الحوثيين وحليفهم الرئيس المخلوع وبقية الأطراف السياسية، ببقاء الرئيس هادي على رأس هذا المجلس.

لكن هذا يعني بالتحديد انتهاء مفعول الرئيس ومنصبه باعتباره مفوضاً ومنتخباً من الشعب اليمني بشكل مباشر، ليصبح رهن إرادة القوى السياسية التي منحته الثقة هذه المرة واختارته لرئاسة مجلس اختارته هي على عينها، علماً بأنه ليس هناك من ضمانات حقيقية لاستمرار المجلس أو نجاحه، مع بقاء سلطة وتسلُّط الحلف الانقلابي، والمسنودين من جيش وأمن، بتكوين مناطقي وطائفي واضح.

لا جدوى اليوم حتى من النقاش حول إعادة هيكلة السلطة التشريعية، لأنها جزء من لعبة مصادرة السلطة واحتكارها التي يمارسها الحلف الانقلابي، بل يتعين التركيز في أي حوار يُعقد بين الأطراف اليمنية المؤثرة، في الداخل أو الخارج على ضمانات استكمال تنفيذ بقية استحقاقات الانتقال الديمقراطي المستندة إلى اتفاق المبادرة الخليجية وآليته التنفيذية وإلى مخرجات الحوار الوطني، وقرارات مجلس الأمن ذات الصلة.

وأهم هذه الاستحقاقات هي، المضي في إتمام عملية الانتقال إلى مرحلة الدولة الاتحادية، وبالأخص ما يتعلق منها باعتماد وثيقة مسودة الدستور، وعرضها على الاستفتاء العام، ومن ثم المضي في انتخاب سلطات ومؤسسات الدولة، وصولاً إلى مرحلة الشرعية الدستورية الكاملة القائمة على مبدأ التفويض والانتخاب من الشعب.

لقد سقطت صنعاء وسقطت المقار السيادية فور الانتهاء من صياغة مسودة الدستور والشروع في عرضها على الهيئة العليا للرقابة على مخرجات الحوار الوطني التي كان يُفترض أن تعتمد الوثيقة قبل عرضها على الاستفتاء، وهذا يقدم دليلاً قوياً على الهوة الفاصلة بين القوى المتشبثة بسلطان الأمر الواقع الذي تفرضه على البلاد، مستفيدة من احتكارها لموارد القوة العسكرية والمالية، وبين الشعب اليمني الذي يتطلع إلى تأسيس دولة يمنية حديثة تعددية يستظل بها الجميع وتعتمد في إنشاء مؤسساتها على الآلية الديمقراطية.

لا يوفر هذا الحلف المضاد للإرادة اليمنية الجامعة وسيلة إلا واستخدمها بما فيها تلك التي تشكل معاول هدم قوية لبنيان الوحدة الوطنية، وتعميق الهوة المناطقية والطائفية بين أبناء المجتمع، من بينها احتجاز رئيس الوزراء والوزراء الذين ينتمون إلى المحافظات الجنوبية والجنوبية الغربية، وتصفية الجنود والضباط الذين ينتمون إلى تلك المحافظات، كما حدث مؤخراً في معسكر القوات الخاصة بغرب العاصمة صنعاء.

من بين هذه الوسائل، التسريب الأخير الذي بثته قناة المسيرة التابعة للحوثيين، وحصلت عليه بالتأكيد من غرفة عمليات الرئيس المخلوع الذي صادر أحدث معدات جهاز الأمن القومي لاستخدامها في مرحلة ما بعد التنازل عن السلطة، بهدف إدارة الثورة المضادة وإسقاط النظام الانتقالي.

يتضمن التسريب الذي بثته "المسيرة" من مقرها الرئيس في الضاحية الجنوبية للعاصمة اللبنانية، بيروت، حواراً بالهاتف بين الرئيس هادي ومدير مكتبه أحمد عوض بن مبارك، نقل خلاله الرئيس كلاماً عن مستشاره والأمين العام السابق للحزب الاشتراكي اليمني، ياسين سعيد نعمان، تضمن إساءة من هذا الأخير لأبناء محافظة تعز، الواقعة إلى الجنوب الغربي من اليمن.

هذا التسريب من بين أهم أهدافه هو تفكيك الكتلة الوطنية التي تشكلت في مواجهة الحلف الانقلابي، من خلال كسر إرادة نواة هذه الكتلة "تعز" وفت عضدها وبث الإحباط واليأس في صفوف أبنائها، بالنظر إلى المكانة التي يحتلها الدكتور ياسين سعيد نعمان بين أبناء محافظة تعز، التي قضى شطراً مهماً من حياته فيها، وحيث يتواجد معظم أعضاء حزبه الحزب الاشتراكي اليمني في المحافظات الشمالية.

وفي تصوري أن اللجوء إلى هذه الأدوات القذرة في سياق المواجهة المحتدمة بين الجماعة الانقلابية والوطن، يشكل دليلاً قوياً على إفلاس الانقلابيين وقرب نهايتهم، وافتقارهم إلى المقومات الراسخة من الحضور الشرعي في واجهة الوطن.