بعد أيام قليلة تكتمل سنوات أربع من عمر
الثورة السورية التي تحولت إلى مأساة إنسانية كبيرة، من غير أن يظهر، إلى الآن، أي ضوء في نهاية النفق الطويل. نحو ربع مليون قتيل وأعداد غير معروفة من المعطوبين والمغيبين في السجون والمعتقلات، إلى جانب تشريد نصف السكان داخل
سوريا وخارجها، وخراب نصف العمران في طول البلاد وعرضها، بما في ذلك شواهد تاريخ هو بين الأقدم
عالمياً. من غير أن يعني ذلك أن النصف الآخر من السكان والعمران بخير.
قد تكون الوقائع المذكورة كافية وحدها لطرح السؤال المتشائم في العنوان، لكن المقصود هو أكثر من ذلك: معنى سوريا ككيان وإطار جغرافي-سياسي يعود تاريخه إلى نحو قرن من الزمان. نظام
الأسد الذي استولى على الدولة وطوبها باسم السلالة الحاكمة، رأى في سوريا ملكاً خاصاً يتصرف به كما يشاء، وهو ما عبرت عنه بشفافية تامة تسمية البلد بـ"سورية الأسد". في مقابل هذا المفهوم كانت المعارضة تسعى ما وسعها ذلك إلى التوكيد على وطنية سورية (ودولة سورية، وشعب سوري..) مستقلة عن النظام القائم. مع اندلاع الثورة، في شهر مارس/ آذار 2011، بلغ الصراع على التملك الرمزي لسوريا ذروته. فكان كل من النظام والثورة يتكلمان عن سوريا الوطن والدولة والشعب، كل من منظوره ومفهومه، ويحاول فرض مفهومه هذا على الرأي العام المحلي والدولي.
وقد بلغ الشقاق بين الطرفين، دائماً على المستوى الرمزي، حد رفع علمين، بعد ظهور جيش حر في مواجهة جيش النظام الذي ملأ جدران المدن بشعار "الأسد أو لا أحد" الذي يطابق بين وجود الدولة وسيطرة النظام عليها، ثم شعار "الأسد أو نحرق البلد" الذي يعبر عن استراتيجية المواجهة لدى قاعدته الاجتماعية وذراعه العسكرية الضاربة معاً.
في سنتها الأولى التي طغى عليها الكفاح السلمي للسكان، حققت الثورة إنجازات كبيرة في التملك الرمزي لمفهوم سوريا، سواء على الصعيد الوطني من خلال انتشار بؤر التظاهر السلمي على امتداد الأراضي السورية كما من خلال التوكيد على الشعارات الجامعة (الشعب السوري واحد)، أو على الصعيد الدولي من خلال اعتراف أكثر من مئة دولة بازدواجية التمثيل السياسي لسوريا بين الإطار السياسي الرئيسي للمعارضة (المجلس الوطني) والنظام، مع أفضلية نسبية للأول، إذا أخذنا بنظر الاعتبار أن دولاً كثيرة، عربية وأجنبية، أعلنت صراحةً عن سقوط شرعية النظام ودعت رأسه إلى التنحي، من غير أن تستكمل المترتبات القانونية لسحب الشرعية هذا، فلم تعتبر المجلس الوطني (ثم الائتلاف) "ممثلاً شرعياً وحيداً" للشعب السوري. ستدفع سوريا ثمناً كبيراً جداً لهذا التردد الدولي في سحب الشرعية من النظام سحباً كاملاً. ولعل ما قد يسوغ هذا التردد القاتل، بصرف النظر عن نوايا الدول ومصالحها المتضاربة، هو وجود قاعدة اجتماعية للنظام فشلت في الانفصال عنه واقتراح بديل يمثلها.
التحول النوعي الذي سيغير من موازين الشرعية في التملك الرمزي لسوريا إنما هو الطغيان المطرد للون الإسلامي على الفصائل المسلحة، وبخاصة التيار السلفي الجهادي (أحرار الشام ثم النصرة وصولاً إلى تنظيم الدولة الإسلامية). ففضلاً عما يثيره الإسلاميون من ذعر لدى الأقليات الدينية من غير المسلمين السنة، كما لدى كثير من الأنظمة العربية والدول الغربية، تكمن المشكلة الرئيسية مع هذه الجماعات في عدم اعترافها بأي إطار وطني إلى حد اعتبار بعضها سوريا «ملكاً لكل المسلمين» وليس للسوريين وحدهم. الأمر الذي تجلى من جهة في تدفق «مجاهدين» من أربع جهات الأرض على المناطق المحررة من سوريا وسيطرة هؤلاء «المهاجرين»، غالباً، على المفاصل القيادية في المنظمات الجهادية، ومن جهة أخرى في قيام «تنظيم الدولة» (داعش) بمحو الحدود بين العراق وسوريا وإقامته دولة الخلافة على مساحات واسعة ومتصلة من أراضي البلدين.
حين نتحدث عن «معنى سوريا» فنحن نقصد قبل كل شيء دولة مستقلة ذات سيادة بالمفهوم الذي تكرس بعد انتهاء عصر الاستعمار، من غير أن نغفل مستويات أخرى لهذا المعنى، اجتماعية واقتصادية وثقافية، يتحدد بتضافرها معاً موقعها من العالم وصورتها.
في هذا الإطار، يمكن القول إن «سوريا الأسد» فقدت استقلاليتها وسيادتها تماماً مرتين: مرة أولى بفقدان النظام سيطرته على نحو سبعين في المئة من الأرض، وعلى كثير من المعابر الحدودية مع دول الجوار، وثانية مع دخول حزب الله اللبناني الحرب دفاعاً عنه، وصولاً إلى استلام الإيرانيين لزمام الأمور بصورة كاملة بما في ذلك تملك القرار السياسي. وإذا كان الجنرال قاسم سليماني أصبح، بصورة علنية، القائد العسكري الميداني لحرب النظام على سوريا، فقد عبر عدد من القادة الإيرانيين عن تبعية دمشق السياسية لهم، مرة بالقول إن سوريا هي المحافظة رقم 35 من الدولة الإيرانية، ومرة بالتباهي بسيطرة إيران على أربع عواصم عربية (بعد انضمام صنعاء إلى دمشق وبغداد وبيروت)، وأخيراً في تصريحات علي يونسي، مستشار الرئيس روحاني، حول "الامبراطورية الإيرانية التي تملك كل الشرق الأوسط" و.. "عاصمتها بغداد"!
بالمقابل، فقدت المعارضة باطراد استقلالية قرارها لمصلحة الدول الداعمة، بصورة متناسبة مع انفصالها عن الحراك الثوري في الداخل الوطني. لا يمكن الحديث عن السيادة، بالنسبة للمعارضة، إلا على مستوى الخطاب. المؤسف أنها رسبت في الامتحان حتى على هذا المستوى. كان تعليق رئيس الائتلاف الوطني المعارض خالد خوجة على العملية العسكرية التركية لنقل رفاة سليمان شاه، كارثياً بهذا المعنى. فقد اعتبر خوجة العملية التركية مشروعة من وجهة نظر القانون الدولي، الأمر الذي لا يصمد أمام أي تحليل قانوني. ليته اكتفى بتبرير العملية سياسياً نظراً لعلاقة التحالف التي تربط المعارضة بالحكومة التركية. فهذا مفهوم ولا اعتراض عليه. أما أن يضفي الشرعية القانونية على الاختراق التركي، فهذا يعني أن مفهوم السيادة الوطنية فقد قيمته لدى المعارضة كما لدى النظام الكيماوي، سواء بسواء.
(نقلا عن صحيفة القدس العربي)