هناك دائما اختلاف بين الواقع وبين رؤيتك له؛ وتقترب المسافة بين الواقع وتلك الرؤية كلما استطعت الخروج من التفاصيل واستطعت الوصول إلى صورة كلية يمكنها استيعاب التفاصيل ووضعها في إطار جامع؛ تستطيع بها الإجابة عن الأسئلة التي تبدو إجاباتها متناقضة للوهلة الأولى.
وعندما تتسع هذه المسافة بشكل كارثي؛ فهي تدفعك إلى درجات من القدرة الغير مفهومة على احتواء المتناقضات دون أي أزمة؛ بل وتعطي لك القدرة الفائقة على تفسير وتبرير هذه المتناقضات دون أدنى مشكلة حتى ولو كانت ضد العقل والمنطق.
ما يحدث في
مصر الآن بمناسبة المؤتمر
الاقتصادي – هكذا يسمونه في العالم الموازي – هو مثال نموذجي لهذه المسافة الهائلة بين الواقع المؤلم وبين ما يقال؛ لست هنا ضد الحلم بمستقبل مشرق؛ فالحلم بالتغيير إلى آفاق هائلة مهما كان الواقع مؤلما هو أحد أهم مقدمات النجاح، ولكنني ضد تصدير الوهم المبني على التلاعب بالألفاظ ومشاعر الجماهير ومستقبل الأجيال. واستغلال سذاجة البعض وأحلام
الفقراء البؤساء لتحقيق أحلام "النخبة" والطبقة الحاكمة على حساب أجيال قادمة من الفقراء أولاد الفقراء أحفاد الفقراء.
الواقع المؤلم أن معدلات الفقر في مصر وصلت لأرقام موجعة حيث تشير الإحصاءات إلى أن ما يقرب من 40% من الشعب المصري تحت خط الفقر مع التأكيد أن هذا المعدل طبقا لحد الفقر المصري وهو ما يقترب من دولار ونصف يوميا للمواطن؛ أما إذا أخذنا معيارا أكثر إنسانية فسيهبط ما يقرب من 60 إلى 70% من المصريين تحت خط الفقر.
الواقع المؤلم أن 60% من إجمالي 4200 قرية تقريبا تعيش تحت خط الفقر ومنهم 500 قرية تعيش في فقر مدقع وتعاني من مشاكل في التغذية؛ الواقع المؤلم أن معدلات الفشل الكلوي والالتهاب الكبدي الوبائي وبعض السرطانات هي المعدلات الأعلى في مصر. الواقع المؤلم أن خدمات التعليم والصحة للمواطن المصري أصبحت كارثية ولا ترقى لأي شكل إنساني. الواقع المؤلم أن أكثر من نصف المصريين في أفضل التقديرات يعيشون في العشوائيات وما يقرب من 6% يعيشون في المقابر.
ولكن هذا هو شعب مصر المنتهك منذ مئني عام؛ أما "النخبة" وحاشيتها وهي ما يقرب من 10% من المصريين فهم من يعيشون في العالم الموازي في عقول البؤساء والحقيقي لهم خلف أسوار منتجعاتهم العالية؛ وخلف زجاج عرباتهم الأسود وخلف عدسات نظاراتهم الفاخرة؛ هؤلاء من رأيتهم مجتمعين هناك في المنطقة المصرية الخضراء في شرم الشيخ؛ غارقون في عالم مواز؛ ويريدون منا جميعا أن ننتقل من عالمنا الواقعي إلى هذا العالم الرائع في العاصمة الجديدة الذكية ولكن بأذهاننا وعقولنا فقط؛ أما أجسادنا وأولادنا فسيبقوا كما هم في مصر الحقيقية الغارقة في الفقر؛ والعجيب أنك ترى هذا الكم الهائل من الفقراء بل والمعدمين أمام شاشات الآلهة الجديدة منبهرين بالحضور الكبير وبالمليارات المنهمرة من كل حدب وصوب والاستثمارات بمئات المليارات "هكذا قالوا لنا" التي ستبني العاصمة الجديدة.
إن مجرد التفكير في بناء عاصمة جديدة بـ 500 مليار دولار "مع الشك الكبير في إمكانية حدوث ذلك" له دلالات واضحة على ما تحمله "النخبة" من إحساس بالتميز عن باقي الشعب؛ تلك النخبة الرأسمالية التي تمتلك 80% من الثروة وتتحكم بالتشريعات وتصيغها لصالحها وتستقطب الثروة دائما إلى الأعلى. على هذا الشعب إدراك أن الفقر هو صناعة تلك "النخبة" الفاسدة التي لم ولن تعمل أبدا إلا لصالحها؛ إن هذه المليارات الخمسمائة قادرة على إعادة بناء مصر ولكنهم لا يريدون بناء مصر بها إنما يريدون بناء مصرا جديدة لهم بعيدا عن هذا الغثاء والفقر الذي يملأ مصر القديمة؛ ويريدون من هؤلاء الفقراء أن يستمتعوا فقط "بماكيتات" العاصمة الجديدة ويرقصون فرحا أمام شاشات السحرة بهذا العالم الموازي الذي ربما لن يستطيعوا حتى زيارته.
إن مشروع العاصمة الجديدة هو امتداد لمشاريع الفضاء المصرية في الستينيات وانفتاح السبعينيات والمؤتمرات الاقتصادية في الثمانينيات وبيع القطاع العام في التسعينيات وتوشكا الألفية الجديدة والمليون وحدة سكنية وقناة السويس الجديدة؛ إنه نفس وهم العالم الموازي الذي تصنعه عصابة النخبة الحاكمة دائما للشعب الفقير ولكنه مع الأسف دائما ما يصدق هذه الأكاذيب؛ يبدو أنه فقد قدرته على الفعل وأصبح من فقره وبؤسه وانعدام الأمل في مستقبل أفضل يكتفي بالحياة في عالم الأحلام الوهمي ويمني نفسه به في أحلامه ويظل غارقا في واقعه البائس.
يقول يوسف السباعي عن الشعب المصري: "هذا الشعب لا بد أن يكون أحد اثنين.. إما شعب يكره نفسه لأنه -رغم ما يشيعون عنه من أنه مصدر السلطات- يأبى أن يصلح حاله ويعالج مصابه ويزيل عن نفسه ذلك القيد الثقيل من الفقر والجهل والمرض، وإما أنه شعب زاهد، قد تعود ذلك البؤس الذى يرتع فيه والحرمان الذي يأخذ بخناقه".
هذا ليس لوما أو سبا لهذا الشعب المنتهك ولكنه رسالة لنخبة مصر الحقيقية التي فشلت حتى الآن وربما لأعوام قادمة ليست بالقليلة في الدفاع عن الملايين المنتهكة وتركتها لعبة في يد عصابة الحكم؛ تركتها تفضل عالما موازيا ولو كان مستحيلا هروبا من واقع بائس يظنون ألا مفر منه.
تركتها لعبة في يد أنظمة عميلة تغرقه في الفقر المدقع وتستنزف ثرواته ليل نهار ولكنهم دائما يصنعون له عالما موازيا يملأ به وعيه؛ عالم مناقضا تماما لما يعيشه واقعا؛ كما يصنعون المعارك والبطولات ليظل مقتنعا بفقره ويبقى هكذا خانعا مهانا. يقول كارل ماركس: "الفقر لا يصنع ثورة وإنما وعي الفقر هو الذي يصنع الثورة.. الطاغية مهمته أن يجعلك فقيراً وشيخ الطاغية مهمته أن يجعل وعيك غائباً".
إن الفقراء لا يدخلون الجنة بالضرورة ونعم لا تجلب النعم؛ وصناعة أديان موازية لا تمت للحقيقة بصلة هي أدوات تدجين للوعي حتى يتكون عالم مواز مثالي يحمل روحا ميتافيزيقية تجعل الفقراء ينتظرون الجنة الموعودة والنعم المنتظرة.
ربما لم ننجح حتى الآن أن نجعل هذا الشعب البائس يدرك مدى بؤسه ويدرك من هم الذين جعلوه هكذا؛ ولكن على الجميع أن يعلم أن الجنة والنعم لن تأتي بمهادنة من أكدوا على مر العقود أنهم إحدى أدوات الرأسمالية الغربية في السيطرة على مصر وغيرها؛ تعلمنا أن الفقر لن يذهب إلا بتفتيت تلك الطبقة الحاكمة تفكيكا كاملا؛ وعلمنا أن الفقراء لا يثورون إلا عندما يدركوا أنهم فقراء. علمنا أن مصر ستتحرر عندما تختفي المسافة بين الواقع والآمال داخل عقولنا وعقول بؤساء مصر وينكسر هذا العالم الموازي الوهمي؛ وأن الفقراء لن يدخلوا الجنة بالضرورة.