لم تكن الحرب العالمية الثانية هي نهاية المطاف عند دولتين من أهموأرقى الدول في القرن الحادي والعشرين، ولم تثنيهما الحرب أو انطباع ما بعدها من ذل ومهانة واستسلام أن تكونا قاطرتي الاقتصاد الأوربي والآسيوي في القرن الحالي، فألمانيا واليابان تتربعان على عرش الدول المتقدمة تكنولوجيا وصناعيا على مستوى العالم، وتعدان من الدول الرائدة والمتقدمة في المجالات كافة، وعلى الأصعدة كلها،رغم قلة مواردها الطبيعية وفقر طبيعتها الجغرافية، واستطاعت الدولتان النهوض من كبوتهما بفضل الغنى الفكري واتساع مساحة البحث العلمي، إلى جانب الاهتمام بالمنتج المادي والاستثمار في العقل البشري، ليتم تعويضهما سريعا عن خسائر الحروب والتقدم نحو القمة، ليكون الغنى الفكري معوضا عن الفقر المادي لهما بعد الهزيمة المدوية.
بعد هزيمة 1967م كانت مصر أفضل حالا من هاتين الدولتين، ولم تكنلتبدأ من الصفر كما فعلت ألمانيا أو اليابان، فكان لدى مصر برنامج صناعات عسكريةلا بأس به على رأسه المقاتلة "حلوان 300" وكان هناك برنامج صناعات مدنيةممثل بتدشين مئات المصانع التابعة للدولة، على رأسها مصنع "نصر" لصناعة السيارات، أما مشروعات الإصلاح الزراعي والسد العالي وغيرها، فكانت جديرة بأن تغير خريطة مصر الزراعية في بضع سنين، إلا أن الفقر الفكري لدى الأنظمة الحاكمة وصراعها الداخلي كان يقف حائلا دون تطور المجتمع المصري، ودون تقدم الدولة المصرية، وحتى وقتنا الحالي لازلنا على النهج نفسه في الفقر الفكري، وعلى المنوال نفسه من الصراع الداخلي، وهذا سبب تأخرنا وانحدارنا.
تمتلك مصر من الإمكانات المادية والفكرية مالا حصر له، فعلى المستوى المادي تمتلك مصر سواحل على أكبر بحرين في العالم، وشريانا ملاحيا بحريا من أهم طرق التجارة العالمية ونهرا من أطول أنهار العالم، ومساحات منبسطة من الأراضي بأنواعها كافة تقدر بعشرات الملايين من الأفدنة الصالحة للزراعة، وتمتلك أيضا خزانات مياه جوفية واحتياطيا جيدا من المحروقات في البحر وعلى اليابسة، أما عن الطبيعة، وإن لم تكن كما درسونا قديما أنها "حار جاف صيفا، دافئ ممطر شتاء" إلا أنها طبيعة جيدة، وتتناسب معها الأنشطة كافة في المجالات كافة على مدار العام، بل تساعد هذه الطبيعة على زيادة حجم التجارة والنمو الاقتصادي، بما تحتويه من غنى لمصادر الطاقة المتجددة كطاقة الشمس والرياح على مدار العام، أما الغنى الفكري فيكفي أن أؤكد أن آلاف العلماء من المصريين في المجالات كافة ينتشرون في أقطار العالم المختلفة في أوربا وأمريكا ودول المهجر، كأستراليا وكندا ونيوزيلاندا وغيرها، وليس أولهم زويل أو فاروق الباز أو مجدي يعقوب وليس آخرهم المخترع الصغير/ عبدالله عاصم، الذي سافر إلى أمريكا بلا عودة؛ خوفا من الاعتقال في بلده.
من الفقر الفكري أن تكون أكبر مستورد للقمح على مستوى العالم ولديك مساحات قابلة للزراعة بما تحتاجه وزيادة، وتتنوع هذه المساحات بالاعتماد على الأمطار في الساحل الشمالي وعلى المياه الجوفية في الصحراء الغربية وسيناء، وعلى مياه النيل في الوادي والدلتا، ولديك علماء يستطيعون مساعدتك على تطوير أقماح تتأقلم مع الأراضي كافة، وفي كل الظروف فتذعن لعدوك وتقف إرادتك السياسية حائلا دون ذلك.
من الفقر الفكري أن يكون لديك شريان ملاحي كقناة السويس تتحكم في حوالي 10% من حجم التجارة العالمية، ولا يستفيد دخلك من هذه التجارة بالنسبة نفسها التي تتحكم بها، فلو فرضنا أن حجم التجارة العالمية سنويا يقدر بتريليون دولار، فلا بد أن تستفيد كدولة متحكمة في عشر هذا المبلغ بالقيمة نفسها، أي تستفيد بـ 10% من التريليون دولار أي ما قيمته 100 مليار دولار، وتقف إرادتك السياسية حائلا دون ذلك.
من الفقر الفكري أن يكون لك جيش يعد الأول إفريقيا وعربيا، ويمتلك ترتيبا عالميا متقدما، ولا تمتلك نفس الترتيب العالمي كبلد مصنع للسلاح، وتقفز عليك دولا أقل منك قدرة وقوة مثل جنوب إفريقيا بصناعات، تمكنك قدرتك المادية والفكرية من إنتاجها وتقف إرادتك السياسية حائلا دون ذلك.
من الفقر الفكري أن يعاني مجتمعا بهذه القدرات المادية والفكرية من انقطاع التيار الكهربي معظم شهور السنة، ويعتمد على معونات بترولية خليجية كما تتحكم فيه شركات التنقيب العالمية، ولديه هيئة للطاقة النووية تمتلك مفاعل صغير بقدرة 22 ميجا وات، وكان يمكنها تطوير تجربتها النووية بإنشاء عدة محطات لتوليد التيار الكهربائي، تعمل بالطاقة النووية على سواحل البحرين الأبيض والأحمر فتوفر الكهرباء وتوفر المواد البترولية المهدرة من توليد المحطات التقليدية، وتوفر المياه المحلاة المستخرجة من عمليات التفاعل النووي وتوليد الكهرباء فتزرع بها آلاف الأفدنة، لكن إرادتك السياسية تقف حائلا دون ذلك.
من الفقر الفكري أن يتم حرق كتب التراث الإسلامي كما فعل التتار من قبل، أو تتم دعوة لخلع الحجاب ليرى عدوك محاولة تجردك من هويتك، أو يخرج غير المتخصصين ليثبوا على ثوابت الدين ويشوهوا المفاهيم والرموز الدينية، ويشككوا في القرآن والسنة، وفي المقابل تغلق المنابر التي يمكنها الرد وتتخلى مؤسسات الدولة عن دورها، ولا يحاسب المعتدون، وكل ذلك يحدث تحت سمعك وبصرك ولم تمنعه إرادتك السياسية فهذا فقر فكري.
الفقر الفكري موروث أنظمة سياسية مسلوبة الإرادة السياسية، تعمل على تمييع القضايا المصيرية حفاظا على سلطانها ونفوذها، وإذعانا لعدوها لتعيش مجتمعاتها المحكومة تحت وطأة القهر والمرض والفقر والعوز، لتبقى الوعود المؤدلجة وعمليات التسويف المشوقة سرابا يعيش عليه العقل الجمعي جيلا بعد جيل.