كتب فهمي هويدي: في الأسبوع الماضي، حين احتفلت
إسرائيل بالذكرى السابعة والستين لتأسيس الدولة حسب التقويم العبري، كان الإعلام المصري مشغولا بمناسبة أخرى هي ذكرى مرور مائة عام على مذبحة الأرمن (عام 1919). وإذ خرج فلسطينيو 48 المقيمون في داخل إسرائيل في مسيرات تذكر الجميع بنكبتهم، فإن الأرمن خرجوا إلى شوارع مختلف العواصم الغربية التي هاجروا إليها، كي يعيدوا إلى الأذهان ذكرى الفظائع التي تعرض لها أسلافهم، غير أن المظاهرات
الفلسطينية لم تلفت الأنظار، في حين أبرزت وسائل الإعلام العربية والغربية مسيرات الأرمن وعروضهم.
وهذا التباين بين النكبتين يفتح الباب للمقارنة بين حظوظ كل من الفلسطينيين والأرمن، التي خلصت منها إلى أن الأرمن رغم الفظائع والبشاعات التي حلت بهم يظلون أفضل حالا بكثير من الفلسطينيين. صحيح أن اهتمام الإعلام المصري بمئوية مذبحة الأرمن له دوافع أخرى سياسية، فيها من مكايدة الرئيس التركي بأكثر مما فيها من التعاطف مع الأرمن والتضامن مع مظلوميتهم التاريخية، إلا أن ذلك لا يغير كثيرا من جوهر الملاحظة التي أبديتها، وكون نكبتهم أهون من نكبة الفلسطينيين. دليلي على ذلك شواهد عدة في مقدمتها ما يلي:
إن بلاد الأرمن بقيت لأبنائها في نهاية المطاف، ورغم أن ضحايا المذابح تراوح عددهم بين مليون ومليون ونصف المليون، إلا أن وطنهم ظل كما هو، فلم يتم اقتلاعهم من أرضهم ولا جاء شعب آخر لكي يحتل بلادهم، كما هو في الحالة الفلسطينية، وفي حين ظلت أرمينيا للأرمن، فإن فلسطين محيت من الخريطة والذاكرة، وصادرها لحسابه شعب آخر بقوة السلاح.
في حين أن نكبة الأرمن توزعت بين عامي 1909 و1919، وقد طويت صفحتها بعد ذلك، بمعنى أنها كانت كابوسا مروعا حل بهم حينا من الدهر ثم انقشع وانزوى، فإن نكبة الفلسطينيين مستمرة منذ أربعينيات القرن الماضي. وفصولها لا تزال تتابع تحت أعيننا منذ ذلك الحين وحتى الوقت الراهن، ولا يكاد يرى أفق لانقشاعه في الأجل المنظور، ولئن توقفت عذابات الأرمن وجفت دماؤهم التي أريقت، فإن عذابات الفلسطينيين لم تتوقف وشلال الدماء لم يتوقف عن النزف والتدفق.
الأرمن وجدوا في العالم المسيحي نصيرا لهم في الماضي والحاضر، صحيح أن العالم العربي استهول ما أصابهم، وفتح أبوابه لاستقبال مهاجريهم، وشيخ الأزهر الشيخ عبد العزيز البشري أصدر بيانا شهيرا في عام 1909 أدان ما تعرضوا له، إلا أن العواصم الغربية تبنت قضيتهم طول الوقت. فأوروبا وروسيا القيصرية وقفتا إلى جانبهم بدوافع دينية في إطار اشتباكهما مع الإمبراطورية العثمانية وسعيهما لتمزيقها في طور ضعفها. والمهاجرون منهم انخرطوا في المجتمعات الأوروبية وصاروا ناشطين سياسيين حملوا قضيتهم إلى مختلف المحافل والمؤسسات الدولية (اللوبي الأرمني في فرنسا والولايات المتحدة له نفوذه القوي)، وهذا الذي توفر للأرمن لم يتح للفلسطينيين بنفس القدر، بل إن رصيد «القضية» تراجع خلال السنوات الأخيرة في العالم العربي ذاته.
حظوظ الأرمن في عالم السياسة الغربية كان لها صداها القوي في الإعلام الغربي. والمقارنة بين كثافة التغطية الإعلامية لمسيرات ومهرجانات الأرمن في أوروبا وبين ندرة الصور التي جرى بثها لمظاهرات فلسطينيي 48 كاشفة لمدى اهتمام وسائل الإعلام الغربية بطرف وعدم اكتراثه بطرف آخر.
يلفت النظر في المقارنة أيضا أن المذابح التي تعرض لها الأرمن لم ينكرها أحد، والخلاف ينحصر فقط في توصيفها. إذ الشائع أنها «إبادة» ولكن هناك من يعتبرها «جريمة حرب»، ولكل طرف أدلته التي يدعم بها رأيه. وقوة الإعلام المساند للأرمن والكاره للدولة العثمانية روجت لمقولة الإبادة.
أما القائلون بأنها جريمة حرب فلهم أيضا أسانيدهم القوية، التي أهمها أن المذابح لم تقع إلا بعد سقوط الدولة العثمانية والانقلاب الذي قادته جمعية الاتحاد والترقي ضد السلطان عبد الحميد في عام 1908 (المذبحة الشهيرة وقعت عام 1909 والثانية في 1915)، بما يعني أن الكماليين (كمال أتاتورك وأعوانه) هم المسؤولون عن المذابح وليست الدولة العثمانية.
من تلك الأسانيد أيضا أن الأرمن كانوا ضمن الذين انتفضوا ضد الدولة العثمانية في مرحلة ضعفها، جنبا إلى جنب مع البلغار والصرب واليونان، وكانت لهم صراعاتهم مع القوميين الأتراك الذين حكموا البلاد بعد تنحية السلطان عبد الحميد، وفي ثنايا ذلك الصراع جرى ما جرى من تقتيل وترويع على الجانبين.
وفي حين تتوزع الآراء بين أنصار الإبادة والمروجين لفكرة جريمة الحرب، فإن ثمة صمتا مريبا ومثيرا للدهشة يحيط بالنكبة التي حلت بالفلسطينيين، كأنما يراد للجميع أن ينسوا ما جرى لهم، ولا يبقى في الذاكرة إلا ما أصاب غيرهم.
وللأسف فإننا نسهم في تكريس ذلك الانطباع، وما جرى في الأسبوع الماضي يشهد بذلك.
حتى خشيت أن أسمع صوتا في الأرض المحتلة يقول: لو لم أكن فلسطينيا لوددت أن أكون أرمينيا.
(عن الشرق القطرية- الاثنين 27 نيسان/ إبريل 2015)