تناول نائب مساعد وزير الدفاع الأمريكي الأسبق
مايكل دوران، في تقرير له العلاقة الأمريكية الإيرانية، وقال إن الرئيس باراك أوباما اتبع سياسة واحدة تجاه إيران منذ استلامه السلطة، مشيرا إلى أن هذه السياسة سعت منذ اليوم الأول إلى حل دبلوماسي لملف إيران النووي، والعمل على تأهيل طهران للعب دور محوري في منطقة الشرق الأوسط.
ونشر دوران تقريرا موسعا في مجلة موزاييك الأمريكية تحت عنوان "استراتيجية أوباما السرية بشأن إيران"، استعرض فيه أهم ملامح سياسة إدارة أوباما تجاه طهران، وفي هذا الجزء تناول انفتاح أوباما على إيران، واستغلال صعود وتمدد تنظيم الدولة.
يشار إلى أن صحيفة "
عربي21" الإلكترونية تقدم هذا التقرير للقارئ العربي على أربعة أجزاء، يستعرض كل جزء منها "سياسة أوباما السرية تجاه إيران" خلال فترة زمنية معينة.
وفيما يلي الجزء الرابع من التقرير:
لقد استغلت الإدارة بحذاقة صعود الدولة الإسلامية لتضفي أهمية على انفتاح أوباما على إيران. كان التنسيق والتشاور فيما وراء الكواليس قد وصل إلى مستويات غير مسبوقة.
لم يعط روديس أي تفاصيل، وإن كانت الأحداث التي توالت فيما بعد قد بدت وكأنما تؤكد الانطباع بأن أوباما لم يكن لديه فعليا لعبة طويلة المدى. فبالإضافة إلى أنه أخذ على حين غرة من قبل الدولة الإسلامية كان يتخذ مسارا معاكسا لمواقفه السابقة بشأن القضايا الرئيسية الأخرى، فعاد وأرسل القوات إلى العراق بعد أن احتفل بعودتها إلى أرض الوطن، وأمر بعمليات عسكرية في سوريا بعد أن كان قد عارضها لسنوات. أنى لمثل هذه الخطوات في الاتجاه المعاكس أن تنسجم مع وجود لعبة طويلة المدى؟
والإجابة هي أن مثل هذه الخطوات إلى الخلف، ورغم أنها حقيقية، كانت تتضمن أقل بكثير مما يصبو إليه المرء، وظلت اللعبة على المدى الطويل قائمة. في شهر آب/ أغسطس بدا الأمر كما لو أن الجيش الأمريكي كان يعد العدة للتدخل الدائم في كل من العراق وسوريا. ولكن، من الواضح اليوم، وبشكل متزايد، أن أوباما لديه في أحسن الأحوال خطة شبه مفهومة للاحتواء في العراق، ولا يوجد لديه أي خطة على الإطلاق بشأن سوريا، وهي نقيصة كانت جلية منذ البداية.
وكان السيناتور ماركو روبيو قد أشار في جلسة استماع للجنة الشؤون الخارجية التابعة لمجلس الشيوخ إلى الضعف الواضح في مقاربة الإدارة، وسأل جون كيري عن كيفية علاج ذلك. كان رد كيري صادما حين اقترح بأن الثغرات سوف يملأها كل من إيران والأسد، وقال: "أنت تفترض أن إيران وسوريا ليست لديهما القدرة على نزال الدولة الإسلامية. إذا ما فشلنا، وفشلنا بشكل بائس، فمن يدري ما الخيار الذي سيلجأون إليه".
ما من شك في أن كيري من خلال حديثه ذلك كان يكشف عن المستور، ويسلط شعاعا من الضوء على الخارطة الذهنية للرئيس وكبار مستشاريه. فعلا، لقد استغلت الإدارة بحذاقة تصاعد الجيوب الإرهابية لتضفي أهمية على انفتاح أوباما على إيران. كان التنسيق والتشاور فيما وراء الكواليس قد وصل إلى مستويات غير مسبوقة.
في هذه الأثناء، زادت أيضا التصريحات المعبرة عن الامتعاض من الحلفاء التقليديين بسبب تبنيهم مواقف عدائية تجاه إيران. وهذا ما عبر عنه نائب الرئيس جوزيف بايدن أثناء كلمة له أمام الطلاب في جامعة هارفارد في مطلع أكتوبر حين قال: "إن مشكلتنا الكبرى في سوريا هي مع حلفائنا في المنطقة. فتركيا والمملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة كانت تصر بشدة على الإطاحة بالأسد، وكانت تصب مئات الملايين من الدولارات وعشرات الآلاف من أطنان السلاح لصالح المعارضة السورية".
بعد ذلك بأسابيع، وصف مسؤول في إدارة أوباما حليفا آخر، هو رئيس وزراء إسرائيل، بشكل مؤذ، قائلا إنه "روث دجاج"، بينما تفاخر مسؤول آخر وبشكل علني بنجاح الولايات المتحدة الأمريكية في تحصين الجمهورية الإسلامية ضد إسرائيل، وقال: "في نهاية المطاف لم يتمكن نتنياهو من سحب الزناد، وكان ذلك بسبب اجتماع الضغط الذي مارسناه نحن عليه مع عدم استعداده هو ذاتيا للإقدام على عمل خطير. والآن، فات الفوت".
بالطبع، يصر مسؤولو الإدارة بشكل مستمر على أن الولايات المتحدة الأمريكية لا تعمل مع طهران، إلا أن التنسيق الحاصل بات محالا إخفاؤه، ولذلك لم يملك هؤلاء المسؤولون سوى ادعاء عدم العلم حينما ظهرت الطائرات الإيرانية في سماء العراق مؤخراً. إلا أن الصحفيين، الذين لاحظوا أن الطائرات الإيرانية كانت تقوم بطلعات في المجال الجوي ذاته الذي كانت تحلق فيه الطائرات الأمريكية وتقصف الأهداف ذاتها، سألوا الناطق باسم البنتاغون (وزارة الدفاع الأمريكية): كيف يمكن لسلاح الجو الأمريكي وسلاح الجو الإيراني أن يعملا في المجال الجوي ذاته دون تصادم؟.
فكان رد الناطق باسم الوزارة كما يلي: "نحن نقوم بمهمات جوية فوق العراق وننسق ذلك مع الحكومة العراقية. يعود للحكومة العراقية أن تحرر ذلك المجال الجوي من أي صدام". وحينما وجه سؤال إلى كيري حول الأنباء التي تفيد بوجود نشاط لسلاح الجو الإيراني في العراق، كان جوابه إن ذلك يعدّ "إيجابيا في المحصلة".
إيجابي؟! بفضل الإذعان الأمريكي باتت إيران تتحكم بالتدريج بقطاع الأمن في الدولة العراقية، وقريبا جدا سوف تهيمن على قطاع الطاقة أيضا، بما يمنحها سيطرة فعلية على خامس أكبر احتياطي للنفط في العالم. حينما يكون الهدف المعلن للولايات المتحدة هو إنشاء كتلة سنية معتدلة قادرة على ضرب إسفين بين الدولة الإسلامية والمجتمعات السنية، فإن الانحياز إلى إيران لا يخدم مثل هذا الهدف، بل قد يحبطه تماما.
في الوقت الذي تمارس فيه إيران نفوذها في كل من العراق وسوريا من خلال مليشيات طائفية تذبح المسلمين السنة دون رادع أو مانع، هل هناك أي قوى سنية في المنطقة تعتبر الانفتاح الأمريكي على طهران شيئاً جيداً؟ هل يوجد بين الرجال السنة ممن هم في عمر حمل السلاح، سواء في العراق أو في سوريا من يرى الآن أن الولايات المتحدة الأمريكية قوة صديقة؟ لا، لا يوجد أحد على الإطلاق.
من الناحية النظرية، قد يقول المرء إنه بالرغم من أن الارتباط بإيران ضار من الناحية السياسية وخطير من الناحية العسكرية، إلا أن الإمكانيات التي تساهم بها في القتال ضد الدولة الإسلامية تعوض عن ذلك وزيادة، ولكن هذا الكلام غير صحيح من الناحية العملية.
لقد أعطى أوباما إيران الحرية المطلقة لتفعل ما تريد في سوريا وفي العراق خلال الأعوام الثلاثة الماضية، وذلك انطلاقا من الفرضية الساذجة بأن طهران سوف تقاتل القاعدة والجماعات التي ترى رؤيتها وتنهج نهجها بما سيخدم المصالح الأمريكية.
إلا أن النتيجة، في كلا البلدين، كانت الإقصاء شبه التام لجميع السنة، ونشوء ملجأ آمن للمتطرفين بات الآن يمتد من ضواحي بغداد إلى دمشق. والآن، ما تفعله أمريكا هو أنها تعالج المرض بجرعة أكبر من زيت الأفعى الذي ساعد ابتداء في التسبب بالمرض.
مثل هذه المقاربة تضر بالمصالح الأمريكية في ساحات أخرى أيضا. لقد تلقينا في الثامن عشر من يناير من هذا العام نذير شؤم لما يمكن أن تؤول إليه الأمور، وذلك حين قصفت قوات الدفاع الإسرائيلية موكبا من كبار الضباط التابعين لحزب الله ولإيران، وكان بينهم جنرال في الحرس الثوري، في مرتفعات الجولان. بعد عشرة أيام جاء الانتقام من طرف حزب الله وإىران.
بمعنى آخر، من خلال اعتباره سوريا مجالا للمصالح الإيرانية، فإن أوباما يسمح بذلك للوحدات الإيرانية المقاتلة بحفر خنادق لها على الحدود مع إسرائيل، ناهيك عن الحدود مع الأردن. تفترض سياسة الرئيس بأن إسرائيل وحلفاء أمريكا الآخرين سيقبعون في الخلف بهدوء، بينما تمضي إيران في إحكام قبضتها على جنوب سوريا. لا، لن يفعلوا ذلك، ومن الحماقة افتراض أنهم لن يحركوا ساكنا.
الجولة الثالثة: 2015 -
حينما اشترى أوباما مشاركة إيران في خطة العمل المشتركة في نوفمبر من عام 2013، فقد أسس لحالة من اللاتماثل ظلت سمة مهمة لازمت المفاوضات منذ ذلك الوقت. ما فعله أوباما هو أنه قايض مجموعة من التنازلات الأمريكية الدائمة بلفتات إيرانية تومئ بالانضباط المؤقت.
أهم هذه اللفتات من قبل إيران على الإطلاق كانت الموافقة على تخفيف تركيز مخزون اليورانيوم المخصب إلى 20 بالمئة، والامتناع عن تركيب أجهزة طرد مركزي جديدة، وتعليق إقامة أي منشآت إضافية في مفاعل آراك للبلوتونيوم.
إلا أن هذه الإجراءات الثلاثة يمكن بسهولة التراجع عنها. في المقابل، اعترف الأمريكان بحق إيران في التخصيب، ووافقوا على مبدأ أن كافة القيود المفروضة على برنامج إيران ستكون ذات صفة محدودة ولمدة متعارف عليها من الزمن.
هذان التنازلان كبيران جدا، ونظرا لأنهما ليسا فقط سياسة حكومة الولايات المتحدة الأمريكية، بل باتا الآن الموقف الجمعي للدول دائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي، بالإضافة إلى ألمانيا، فمن غير المحتمل إمكانية التراجع عنهما.
في مفاوضاته مع إيران، قايض الرئيس تنازلات أمريكية كبيرة مع لفتات إيرانية بالانضباط المؤقت. من غير المحتمل إمكانية التراجع عن هذه التنازلات.
صرح أوباما عدة مرات، كان آخرها خلال خطابه حول "حالة الاتحاد" في عام 2015، بأن الاتفاقية المؤقتة "أوقفت" البرنامج النووي الإيراني. أو، كما عبر عن ذلك في مقابلته التي أجراها في شهر مارس من عام 2014، لقد كان "منطق" الخطة المشتركة للعمل هو "تجميد الوضع لمدة معينة من الزمن للسماح للمفاوضين بالعمل". إلا أن الاتفاقية جمدت فقط الإجراءات الأمريكية، ولم ترق إلى توقيف الإيرانيين عن المضي قدما في برنامجهم.
فمن جهة، تقيد الخطة المشتركة للعمل البرنامج فقط فيما يتعلق بسعة التخصيب والتخزين، ولكنها صامتة صمت القبور فيما يتعلق بالمكونات العسكرية: الصواريخ البالستية، والحيازة، وإنتاج الرؤوس الحربية.
ومن جهة أخرى، من المبالغة الصارخة استخدام كلمة "تجميد" لوصف ما حققته الخطة المشتركة للعمل، حتى في هذه المجالات المحدودة. لقد استمر العلماء النوويون الإيرانيون في إجادة صنعتهم وتحسين إمكانياتهم، وهم يتعلمون كيفية تشغيل أجهزة الطرد المركزي القديمة بدرجة أكبر من الكفاءة. وبفضل الثغرات المتضمنة في الخطة المشتركة للعمل، التي تسمح بممارسة "البحث والتطوير"، تجدهم عاكفين أيضا على إجادة استخدام أجهزة طرد مركزي جديدة وأكثر فعالية.
ولذلك، يتوقع أن ينطلق البرنامج النووي الإيراني قدما نحو الأمام. وما أن تنقضي صلاحية الخطة المشتركة للعمل، كان التاريخ المحدد لذلك هو يوليو 2014، ثم مدد إلى نوفمبر 2014، ومدد تارة أخرى إلى يونيو من هذا العام، ولا يستبعد أن يعاد تمديده تارة أخرى؛ حتى تكون إيران في وضع أقوى مما كانت عليه قبل أن تبدأ المفاوضات. وهذه الحقيقة تمنح طهران سطوة على واشنطن خلال الجولات القادمة.
بإمكاننا القول بيقين تام إن أوباما لم تكن لديه أي أوهام بشأن هذه الحالة من اللاتماثل، وأنه أدار المفاوضات بعينين مفتوحتين بالكامل؛ وذلك لأن البيت الأبيض بذل كل ما في وسعه لكي يخفي الحقيقة عن الجمهور الأمريكي. ففي عام 2013، وبدلا من نشر نص الخطة المشتركة للعمل، أصدر البيت الأبيض صفحة بيانات مضللة جدا. كانت هذه الوثيقة مبهرة بتعبيرات مثل "وقف" و"تراجع" و"تفكيك"، ما أعطى الانطباع بأن الإيرانيين قد وافقوا على تدمير برنامجهم النووي.
إلا أن وزير الخارجية الإيراني رفض الانضمام إلى هذه اللعبة، بل احتج علانية، ورفع عقيرته بالقول "إن الرواية التي يسردها البيت الأبيض تقلل من حجم التنازلات الأمريكية، وتضخم من حجم الالتزامات الإيرانية".
لقد كان محقا جواد ظريف حين قال في مقابلة تلفزيونية: "يحاول البيت الأبيض إعطاء انطباع بأن ما جرى الاتفاق عليه هو تفكيك البرنامج النووي الإيراني. وهم يكررون استخدام هذه العبارة كل حين". وتحدى المذيع الذي كان يجري معه المقابلة أن "يجد كلمة واحدة تقترب من التعبير عن معنى التفكيك، أو يمكن تعريفها على أنها تومئ إلى التفكيك في النص المكتوب بأسره".
ذهب الرئيس روحاني إلى أبعد من ذلك. ففي مقابلة مع السي إن إن أجراها معه فريد زكريا، أكد ليس فقط على أن إيران رفضت تدمير أجهزة الطرد المركزي ضمن شروط الخطة المشتركة للعمل، وإنما على أنها لن تقوم أبداً بتدميرها، "ولا تحت أي ظرف من الظروف". يوجد لدى إيران حاليا ما يقرب من تسعة آلاف جهاز طرد مركزي مركبة وشغالة، وما يقرب من عشرة آلاف جهاز آخر مركبة، ولكنها غير مفعلة بعد.
إلى أن صرح روحاني بموقفه ذاك، كانت إدارة أوباما تقود الصحفيين للاعتقاد بأن الاتفاقية النهائية ستفرض على الإيرانيين تفكيك حوالي خمسة عشر ألف جهاز طرد مركزي. إلا أن روحاني وضع حدا للاستغفال الذي كانت تمارسه الإدارة بحق العالم.
خرج فريد زكريا من المقابلة وهو في حالة من الذهول، ليقول مستهجنا مستغربا: "وكأننا أمام حادثة تحطم قطار. يبدو لي أننا بصدد عقبة مهولة؛ لأن مفهوم الإيرانيين حول شكل الصفقة مقابل مفهوم الأمريكان حول شكلها يجعل الطرفين يبدوان كما لو كانا على مسافة شاسعة كل منهما من الآخر".
لم يمر وقت طويل بعد ذلك حتى خرج علي خامنئي، وكأنما يقصد التأكيد على هذه النقطة، ليدعو إلى نتيجة للمفاوضات تسمح لإيران بتطوير برنامج نووي ذي حجم صناعي على مدى أعوام العقد القادم.
لا شك في أن موقف خامنئي المتصلب فاجأ أوباما. حينما أقر الرئيس الخطة المشتركة للعمل، أخفق في التعرف على حقيقة أساسية، ألا وهي أن الهدفين اللذين يصبو إلى تحقيقهما -تحرير إيران من العزلة الدولية المفروضة عليها، ونزع الإمكانيات النووية عن الجمهورية الإسلامية- إنما هما هدفان متناقضان. كان أوباما -كما يرى الأمور من وجهة نظره- يعرض على خامنئي صفقة لا تقاوم، يمكن لإيران من خلالها الوصول إلى حالة من الانسجام والوئام الاستراتيجي مع الولايات المتحدة الأمريكية.
وذلك أن المحللين المختصين بالشأن الإيراني قادوا الرئيس إلى الاعتقاد بأن خامنئي مستميت للفوز بمثل هذا الانسجام والوئام، وأنه -سعيا منه لنوال هذه الجائزة- كان يبحث فقط عن برنامج نووي "يحفظ ماء وجهه"، عن برنامج يمنحه قدرة رمزية على التخصيب لا أكثر. إلا أنه سرعان ما بدا واضحا للعيان أن خامنئي كان يراهن على أن أوباما سيمنح إيران ذلك الانسجام والوئام، وسيراعيها حتى لو أصرت على برنامج نووي ذي مستوى صناعي ومضت تسعى بقوة إلى إنجازه.
كان يمكن من الناحية النظرية أن يمنح تعنت خامنئي فرصة لأوباما؛ حيث كان بإمكانه أن يعترف بأن "القطار قد تحطم" فعلا، أي أن يعترف بأن الجولة الثانية من التفاوض مع إيران سارت على النهج الكارثي ذاته الذي اختطته الجولة الأولى، ويتجه حينها إلى العمل مع الكونغرس ومع حلفائنا الذين أصابهم الذهول والإحباط، ليستعيد ما فقده من نفوذ. ولكنه بوضوح رفض السير في هذا الطريق، وبدلا من ذلك رأيناه يختار الاستمرار في إبقاء عملية التفاوض حية، من خلال مزيد من الفر وقليل من الكر.
وبدلا من أن يغادر طاولة المفاوضات، قرر أن يدفع لإيران حتى تستمر في التفاوض، وقد دفع لها فعليا من خلال إعفائها من العقوبات المفروضة عليها ما يجعلها في المحصلة تتقاضى دخلا شهريا يقدر بسبعمائة مليون دولار، يضاف إلى ذلك ما حصلت عليه معنويا على شكل تنازلات إضافية تخص برنامجها النووي.
يقال إن أوباما سمح لإيران خلال العام المنصرم بالاحتفاظ، بشكل أو بآخر، بكل مرافقها في ناتانز وفوردو وآراك، وهي المواقع التي أنشأتها إيران في مخالفة صريحة لاتفاقية منع انتشار الأسلحة النووية التي هي أحد الموقعين عليها. هذا هو أوباما ذاته الذي كان قد أعلن عند بدء المفاوضات أن الإيرانيين "لا يحتاجون إلى مرافق محصنة تحت الأرض من مثل ما هو موجود في فوردو، حتى يتسنى لهم امتلاك برنامج نووي سلمي. وهم بالتأكيد ليسوا بحاجة إلى مفاعل ماء ثقيل، كالذي في آراك، حتى يتسنى لهم امتلاك برنامج نووي سلمي …
والسؤال الذي يبقى في نهاية المطاف بحاجة إلى إجابة هو: هل هم على استعداد للتراجع عن بعض التقدم الذي أحرزوه حتى الآن؟". باتت الإجابة على هذا السؤال الآن واضحة: لن يتراجع الإيرانيون عن أي شيء.
يعتقد الرئيس أن العولمة والاندماج الاقتصادي سوف يحفزان إيران على التخلي عن طموحاتها النووية. في هذه الأثناء يزداد حكام إيران قوة وشكيمة، ويزدادون قربا من إنجاز اختراق نووي
باتت هذه الحقيقة واضحة للغالبية العظمى من أعضاء الكونغرس، ولحلفاء أمريكا في الشرق الأوسط، وهي تقود إلى استنتاج لا يقل وضوحا عنها، مفاده أن الطريقة الوحيدة لاستنقاذ الموقف الغربي في
المفاوضات النووية هو استعادة السطوة التي تم التنازل عنها لإيران، بفضل مقاربة الرئيس التي تراعيها.
أخذا كل ذلك بالاعتبار، تعكف مجموعة كبيرة من أعضاء مجلس الشيوخ الآن على دعم تشريع يجعل إعادة فرض العقوبات أمرا ملزما إذا ما أخفق الإيرانيون في إبرام صفقة مع حلول موعد انقضاء فترة الخطة المشتركة للعمل.
وسعيا منه لتعزيز هذا التوجه، بادر رئيس المجلس جون بوهنر إلى دعوة بنيامين نتنياهو إلى واشنطن ليخاطب الكونغرس حول إيران. قبل نتنياهو الدعوة قبل أن يعمد أولا إلى استشارة البيت الأبيض، الذي تمثل رد فعله على ذلك بعاصفة من الاستياء، واصفا الخطوة بأنها مخالفة سافرة للعرف الدبلوماسي، وإهانة موجهة ضد شخص الرئيس.
وبدلا من محاولة تجاوز الخلاف واحتوائه، سعى أوباما بكل ما أوتي من قوة لتوسيع نطاقه. من خلال تحويل الخلاف الشخصي مع نتنياهو إلى قضية مطروحة للنقاش المفتوح أمام الجمهور، قصد البيت الأبيض توجيه الأنظار بعيداً عن الخلاف الاستراتيجي بينهما، وبعيدا عن حقيقة أن النخبة الإسرائيلية بأسرها، بغض النظر عن التوجه السياسي، وكذلك معظم أعضاء الكونغرس الأمريكي، يعتبرون مقاربة الرئيس المتساهلة مع إيران غاية في الغي والضلال.
في هذه الأثناء، يصور الرئيس نقاده داخل الكونغرس على أنهم مسعرون للحرب، مجردون من الشعور بالمسؤولية. وهو يسعى إلى إقناعنا بأنه لا يوجد أمامنا سوى خيارين لا ثالث لهما: إما وفاقه غير المعلن مع إيران، أو حرب أخرى في الشرق الأوسط. إلا أن هذا خيار زائف، وذلك أنه يتجاهل السياسة التي اتبعها كل رئيس منذ عهد جيمي كارتر حتى الآن، ألا وهي سياسة الاحتواء النشط على كل الجبهات، وليس فقط في ميدان الطاقة النووية.
إلا أن أوباما يصر على حجب هذا الخيار، ولسبب بسيط، وهو أن النقاش الصادق والمخلص بشأنه قد يفرض عليه أن يصارح الشعب الأمريكي، ويعترف بعمق التزامه باستراتيجية باتت تداعياتها الضارة تتضاعف يوما عن يوم.
انطلاقا من اعتبارات أيديولوجية، ومن اعتبارات استراتيجية في الوقت ذاته، يعتقد أوباما أن إدماج إيران في النظام الدبلوماسي والاقتصادي الدولي أكثر نجاعة كونه وسيلة للتخفيف من غلواء سلوكها العدواني من ممارسة المزيد من الضغط عليها.
وفي تناقض واضح مع المنطق، ومع كل الأدلة التي تراكمت قبل ومنذ الاتفاقية المؤقتة التي أبرمت في نوفمبر 2013، يبدو أنه يعتقد أيضا بأن أسلوبه يؤتي أكله.
في المقابلة التي أجريت معه في شهر مارس من عام 2014، نافح عن مقاربته، مؤكدا على أنها قد عززت من وضع الإصلاحيين والتوجهات الإصلاحية في طهران، وقال: "إذا كانت الصفقة التي سنبرمها حول البرنامج النووي ستقوي تلك الأصوات والتوجهات داخل إيران، وإذا كان هذا سيؤدي إلى أن يصبح اقتصادهم أكثر اندماجا في المجتمع الدولي، وسيكون هناك سفر أكثر وانفتاح أعظم، فحتى لو استغرق ذلك عقدا أو خمسة عشر عاما أو عشرين عاما، فإنه يتوجب علينا أن نرغب بشدة في مثل هذه النتيجة".
ربما كان الرئيس محقا. ولعل العولمة تنزع الخشونة عن الجمهورية الإسلامية، تماما كما تجلو أمواج المحيط الحواف الخشنة للقواقع. ولكن لو حصل ذلك، فإنه سيستغرق الزمن ذاته الذي تستغرقه أمواج المحيط. ولكن في تلك الأثناء سيكتسب البلطجية في طهران -الذين عينهم الرئيس شركاء استراتيجيين له في نظام عالمي جديد- المزيد من القوة ومن الشكيمة، وسيقتربون أكثر فأكثر من تحقيق اختراق نووي، وسيزدادون ثقة بأهدافهم الهيمنية.
لقد عرض عليهم الرئيس مقابل التخلي عن طموحاتهم النووية "طريقا للتخلص من العزلة المفروضة عليهم"، وبذلك يصبحون "قوة إقليمية ناجحة جداً". أما هم، من طرفهم، ومقابل إزعاج بسيط ومؤقت قد يتنكبوه، لم يجنوا فقط الجوائز الاقتصادية والدبلوماسية الناجمة عن مشاركتهم في الخطة المشتركة للعمل فحسب، وإنما أيضا حافظوا بشكل كامل على طموحاتهم النووية وعلى وسائل تحقيقها. وبعد أن تغلبوا على أقوى بلد على سطح المعمورة في مسعاهم نحو النجاح وبشروطهم، من حقهم فعلا أن يشعروا بالاعتزاز والثقة.
معلومات عن الكاتب:
مايكل دوران، زميل أول في معهد هادسون، ونائب مساعد وزير دفاع سابق، ومدير سابق في مجلس الأمن القومي، وهو الآن بصدد الانتهاء من وضع كتاب عن الرئيس آيزنهاور والشرق الأوسط.
ترجمة: "
عربي21"
اقرأ أيضا:
استراتيجية أوباما السرية بشأن إيران – ج3
استراتيجية أوباما السرية بشأن إيران – ج2
استراتيجية أوباما السرية بشأن إيران - ج1