محرومٌ من فَقَدَ والدَيْه دونَ أنْ يَتقربَ إلى اللهِ ببرَّهما ليحوزَ على رضاهما...
أكتب الآن عن نبع الحنان وأنا مقابل وجه أمي –ختم الله لها ولي ولكم بالخير- أنظر في وجهها وهو يشرق من جلوسها بين أحفادها، والكل يصافحها ويقبل يديها ويطلب رضاها، بين الفينة والأخرى أستدر من عطفها عطفًا ومن حنانها حنانًا، أُلقي إليها بكلمات رقيقة تلامس قلبها لأكتسب الكثير من الترضي والدعوات الصالحات فأعيش عليها سعيدًا مستبشرًا بالخير .
يا الله ما أجمل تلك اللحظات وأنت تستمع لأمك وهي تتبعك بكلمة [ الله يرضى عليك ] تخرج هذه الدعوة من أعماق قلبها لتلامس شغاف قلبك، فتكسو حياتَك بالرضى ووجهَك بالبِشْر فتغدو سعيدًا فرحًا، تنظرُ للدنيا كلِّها بهدوءٍ ورويةٍ وأنت تقول: سأمضي في طريقي ناصبًا هامتي رافعًا قامتي، مستبشرًا بغدٍ مشرق وأيامٍ افضل.
بين الفينة والأخرى أقول لها: "أهلًا وسهلًا بالحاجة"، وهي تقول لي: أهلًا بك، الله يرضى عليك أنت وأولادك، ربنا يسعدكم ويبعد عنك الذي يضرك ويمرك، من ضرِّ الحياة ومرِّها.
أنظر في وجه أمي -حفظها الله- وأنا أذكر بعض الشباب وقد ارتضوا أن يحرموا أنفسهم من هذا الخير بحججٍ واهيةٍ ساقطةٍ،
وكم هي -يعلم الله- جميلة تلك اللحظات التي نزلت فيها لأقدام أمي مقبلًا إياهم، طالبًا رضاها وبرَّها ودعاءها، وما أجمل تلك المشاعر التي انتابتني حين وضعت أمي يدها على رأسي وأخذت تبكي وتقول: لا تفعلها ثانيةً، الله يرضى عليك، الله يرضى عليك، الله يرضى عليك...
محرومٌ ذاك الشاب، بل ومعذبٌ أيضًا، ولا أدري ما الذنب الذي فعله حتى عوقب بحرمان نعمة البرِّ والدعاء والتَّرضي، وكيف تطيب الحياة وهذا أو ذاك يعيش دون جناح أمِّه وأبيه، وما قيمة الحياة حين يعيش هذا أو ذاك وأمُّه أو أبوه يستثقلان الدعاء له أو الترضي عليه؟.
ويعلم الله حين أتصل بأمي على الهاتف أتحرج في إغلاق الخط، بل ربما عددت هذا من العقوق، وكيف أغلق الخط -بعد انتهاء المكالمة- وهي تقول لي: الله يسهل عليك، مع السلامة، في رعاية الله، الله يسترها معك، سلِّم على الأولاد، لا تنسَ أن تتصل بي حين تصل البيت، وتبقى تدعو وتتكلم وأنا أقول: حاضر ولا يهمك، حاضر يا حاجة، على رأسي وعيني وهي تقول: الله يسلم رأسك وعينك... مسكين بل معذبٌ أنت أيها المحروم...
أُوقن تمامًا أنه بقدر قربك من أمك وأبيك بقدر ما يزداد قربهما منك، وبقدر ما تُفتح عليك رحمات وبركات السماء والأرض، وأوقن أيضًا أنه بقدر ابتعادك عن أمك وأبيك بقدر ما يبتعد عنك وجهُهما ويبقى قلبُهما تواقًا لك، منتظرًا لقدومك، مُرحبًا بعودتك وأوبتك لهما... فلا تتردد.
اشتاقَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم لأمِّهِ بعد موتها بأكثر من 40 سنة على أقل تقدير، وأَحبَّ أن يُتابع برَّه لها بعد رحيلها، فإذا به صلى الله عليه وسلم يسوقه برُّه بأمه إلى زيارتها في قبرها، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: [زَارَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْرَ أُمِّهِ، فَبَكَى وَأَبْكَى مَنْ حَوْلَهُ] صحيح مسلم 976.
بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم، يبكي على أمه بعد سنوات من رحيلها وموتها، يبكي ويُبكي من حوله على رحيل أمٍّ ما أدركت ولدَها نبيًّا يزن الدنيا بما فيها فيرجح، فيا ويح من أبكى أمَّه وأباه في حياتهما وحياته، ويا ويل من ضاق صدرُ أمِّه وأبيه به، ويا ويل من رفعت أمُّه أو رفع أبُوه عليه سيفَ الدعاء وسلطوا عليه سهامَ الليل...
فيا أيها الأبناء والبنات: أدركوا أنفسكم قبل غلق أبواب السماء، أدركوا أنفسكم وانهلوا من عذب دعوات آبائكم وأمهاتكم، أدركوا أنفسكم قبل فوات الأوان، قبل أن يقول أحدُكم: يا ليتني زدتُ في برِّي لأمي وأبي فأنال رضاهما وأُكرم بدعائهما.
أيها الأبناء ... بُرُّوا آباءكم وأمهاتكم لتجدوا بركة البر في الدنيا والآخرة، وإياكم والعقوق، فإن أولَه وأقلَّه [ أُفٍّ ] ومن الذي يَسْلَمُ منها؟ اللهمَّ ربِّ ارحم والديَّ كما رَبَّياني صغيرًا...