عندما تضع القيادة، أي قيادة في جماعة أو حزب سياسي أو مكون من المكونات، وجهة لها وأهدافا محددة وبخطة واضحة، وتستخدم كل إمكاناتها وأدواتها السياسية والدينية والمالية والإعلامية والعسكرية، فإنها حتما ستصل إلى أهدافها ووجهتها أو على الأقل تبقى متماسكة وتحفظ وتحمي نفسها من المشاريع الأخرى، وهذا ما فعله الشيعة والأكراد في العراق بعد 2003م ، ولهذا هم نجحوا مرحليا على الأقل.
إلا أن القيادات السنية، وبمختلف توجهاتهم وطاقاتهم المختلفة، اتبعوا ثلاثة مشاريع مختلفة وجميعها كان صائبا، ولا تتناقض بعضها مع بعض، بل تتكامل، فيما لو كان هناك انسجام واتفاق فيما بينها على لعب الأدوار السياسية والاجتماعية والعسكرية، وكل له أهدافه وتبريراته، فالمشروع الأول: كان مشروع المقاومة وطرد المحتل، والمشروع الثاني: كان المقاطعة بسبب المحتل والأسس الخاطئة التي بُنيت عليها العملية السياسية غير الشرعية بحسبهم، والمشروع الثالث: هو مشروع الدخول في العملية السياسية، بهدف تمثيل العرب السنة وتقليل الضرر على أهلهم بعد أن بدت الأحداث أنها تستهدف السنة فلذلك اشتركوا.
فمشروع المقاومة المسلحة ضد المحتل، انتهى بخروج الاحتلال عام 2011م، لتبقى البندقية بلا وجهة، مع عدم حسم المواقف تجاه مشروع الدولة العراقية الجديدة، مع إقصاء لهم وتصنيفهم ضمن قوائم الإرهاب بالنسبة للدولة المُسيطر عليها طائفيا، أما مشروع المقاطعة، فانتهى أيضا بخروج المحتل، مع عدم العمل بمشروع اجتماعي موحد لهم، يحقق للسنة أهدافا اجتماعية، وبعيدا عن مشروع الدولة، أما مشروع الدخول في العملية السياسية، فهو المشروع الوحيد الذي بقي مستمرا، مع أنه لم يقلل الضرر على أهل السنة، بل ازداد الضرر أضعافا مضاعفة بالأموال والأرواح، وتهجيرا وإقصاء واستهدافا.
أن الأهداف والتبريرات جميعها التي دفعت القيادات السنية إلى تبني مشاريعها، كانت أعمالا عشوائية، نابعة من ردة الفعل، وليس الفعل والتخطيط المسبق لها، وصناعة وصياغة المشاريع والأحداث، مع أهداف غير متجددة، وليست بعيدة المدى وغير قابلة للقياس، فكيف يمكن قياس أن المحتل قد تم طرده؟ وأمريكا تتحكم بمصير العراق اقتصاديا وسياسيا وعسكريا، وكيف يمكن قياس أن الضرر قد زال على أهل السنة ؟ هل بنقصان عدد القتول مثلا؟! ناهيك عن الخلافات السنية – السنية بجميع جوانبها السياسية والعسكرية التي تصل أحيانا إلى الصراع والاستهداف.
فمن المحال أن يكون بالإمكان للعرب السنة أن يبنوا مشروعا ينافس الآخرين، وهم متنازعون مع ذاتهم على المصالح، فلكي يبنوا مشروعا يجب أن تكون وحدة مصالحهم قبل وحدة مبادئهم، ووحدة نهجهم قبل وحدة مشاعرهم.
كما أن عدم إدراكهم أن العمل المسلح يحقق ما لا يحققه العمل السياسي، كما أن العمل السياسي يحقق ما لا يحققه العمل المسلح، وما ينطبق على العمل المسلح والسياسي ينطبق على الأعمال الإعلامية والاجتماعية.
هذه الأسباب خلفت انقساما وانفصالا بين القيادة والمجتمع وضياع المجتمع السني وعدم الإيمان أساسا بدور القيادة المهم والمصيري . فالقيادة السنية اليوم ، بعيدة عن المجتمع السني، وبعيدة حتى من حواضنهم الاجتماعية، وبعيدة فيما بينها عن الاتفاق على مشروع الخلاص السني المتمثل ( بالإقليم السني )، فهم اليوم لا يصنعون الأحداث، بل يلاحقونها، ويتعاملون مع تأثيراتها على الأرض، ويحولون الوقوف أمام الجمهور السني والتخفيف من معاناتهم فحسب .
فقد أصبح المكون السني اليوم أكثر المكونات معاناة وتضحية في العراق بالأرواح والأموال، بل وحتى بالجغرافيا والديمغرافيا، فالمشاريع الأخرى تتقدم على حسابهم في ظل وضوح مشاريعها وأهدافها، وانسجام عملها العسكري مع عملها الاجتماعي والسياسي والإعلامي والديني، لكن ما هو أشد إيلاما هو عدم معرفة القرار والوجهة السنية إلى يومنا هذا، التي من المفترض أن تضع حدا للمعاناة وحجم التضحيات. فالي أين نتجه؟ ومتى سنصل؟ ومتى ستنتهي حمامات الدم السني؟ فقد اصبح السنة كسفينة تتقاذفها الأمواج وسط المشاريع الداخلية والإقليمية والدولية.
لقد قدم السنة تضحيات ضخمة على مدى أكثر من 12 عاما، وعند حساب المكاسب على الأرض لا نرى شيئا يذكر، بالرغم من الجهود الجبارة التي بذلت بشكلها العشوائي، والنوايا التي لا تخلوا من خير.
إن عدم الاتفاق السني – السني، بين القيادة السنية على المستوى السياسي والإعلامي والاجتماعي والعسكري منذ بداية الحراك على مشروع الخلاص ( الإقليم السني ) الذي تحول إلى مكافحة الإرهاب، والذي كان من المفترض أن يكون بمثابة الهدف والغاية، فتكون كل الجهود والتضحيات من أجله، ولا سبيل عنه سوى الفوضى الدائمة، والنزوح الدائم، والمفاوضات الدائمة، والضياع وخسارة الأرواح والأرض والأموال المستمرة والدائمة.
علما أن عدم اتفاقهم قد جلب مشاريع فوضوية بديلة تضر بالسنة كـ"داعش"، التي ستجبرهم ربما على الاتفاق لاحقا على مشروع الخلاص السني، ولتبدأ معه مرحلة جديدة من التضحيات على الأرض والنفط والحدود، ولكن، بسياقها الصحيح هذه المرة، ومن أجل هدف وغاية محددة، والتي ربما ستبدأ في العامين القادمين اللذين سيجمعان حدثين سيغيران شكل العراق والمنطقة وهما: التاريخ المحددة للقضاء على "داعش"، والذكرى المئوية لاتفاقية سايكس بيكو.