(1)
تتجدد في منتصف هذا الشهر
ذكرى النكبة الكبرى، يوم أقام الكيان الغاصب بنيان مغتصبته على أنقاض وأشلاء شعب جريح مكلوم، آلاف القتلى وأمثالهم من الجرحى والمشردين، لتبقى أرض
فلسطين آخر آثار التكالب الاستعماري والاستيطاني لا في أرضنا وحسب بل في العالم كله؛ حيث لم تبق أرض تحت
الاحتلال إلا بها، ولم يتعرض شعب لإحلال ولا تهجير مثلما تعرض له على مدار التاريخ الإنساني الحديث، والأكثر إثارة للسخط أن الشعب الغاصب كان قبلها بثلاث سنوات فقط يشكو من الاضطهاد، والمضطهِدون هم من يسروا له الجريمة، فلما أرادوا غسل أيديهم من فعالهم بيهود، غسلوها في طبرية ونهر الأردن وساحل فلسطين السليبة.
اليوم وقد قاربت النكبة إتمام سبعة عقود من المهانة والسرقة للأرض وانتهاك العرض، نجد أن أهلنا وقضيتنا المركزية في أحلك أوقاتها قتامة وانهزاما، كانت القضية قضية أمة في مبدئها وكان العدو يجابه ويعربد، ومع الوقت أدرك أهمية أن يقلل مساحة الصراع من حوله، فقرر البدء بالدولة الأقرب جغرافيا والأكثر شراسة وعداوة، فكانت معاهدة الخزي بكامب ديفيد، ثم توالت الهزائم من أوسلو مرورا بمعاهدة الأردن لينفرط عقد الأمة وينساق الجميع وراء التفاوض والتطبيع، وتصير القضية محصورة في دول الجوار بعد نفض الجميع ليديه، ثم انحصرت أكثر لتصير خاصة بالمفاوض فحسب لا حتى بين أيدي جمهور أصحاب الأرض السليبة، بل بين أيدي فئة فيها مشكوك في سعيها وصوابية إدارتها للصراع، هذا التقزيم للقضية سار بخطى حثيثة من العدو على مدار أربعة عقود دون كلل أو ملل، في مقابل استسلام من العرب لكل مساحة يخسرونها في المعركة، حتى صار التعاطف مع القضية اليوم سببا لنعت صاحبه بالعمالة وهدم "السلام" مع "العدو".
(2)
اليوم أصبح العدو محترما، والمقاومة منبوذة ومحاربة، لا في أرضها بل كذلك بتسهيل محاربتها خارجها كذلك، وانتقلت الراية من خطاب حنجوري معاد للعدو -قبل الحرب- إلى حكام منبطحين بذلوا الغالي والرخيص لتأكيد انبطاحهم واستسلامهم.
(3)
كانت القضية تمثل ميزانا لمقياس الوطنية وصواب الانحياز الوطني والأممي، والخروج عن ثوابتها ومسلماتها يكفي لنبذ الشاذ عن الجماعة الوطنية، ومع تدهور الحال صار من الواجب إعادة المشهد لسياقه الطبيعي والتاريخي من كون هناك حق مغتصب لشعبنا، وأن المقاومة السبيل الوحيد لانتزاع الحق، وأن العدو جسم غريب كان منبوذا وسيظل منبوذا -مجتمعيا على الأقل حتى الآن- ولن يتم ذلك إلا بوجود من يحملون على عاتقهم همّ القضية في كل الأقطار بدوائر التصاقها الأقرب فالأقرب: عربيا فإسلاميا فدوليا.
(4)
ذكرى النكبة تصاحبها في هذا العقد نكبات عدة، من انفراط كامل في الائتلاف المرتكز على اللغة أو الأرض أو الدين، فالاقتتالات السياسية والطائفية والمذهبية عمّت أرجاء أمتنا، ولا يقدر عاقل أو منصف على استبعاد وجود دور للكيان السرطاني الذي تواجد بيننا، دون إعفاء المتورطين مباشرة في الدور الذي يقومون به، سواء كان بقصد أو غير قصد.
إن ما نشهده في مصر من اقتتال، وتدمير لقيمة الجيش بسيناء -خاصة- لأجل حماية العدو كما صرح السيسي بذلك مرارا وتكرارا، وما يجري من احتراب بليبيا وسوريا والعراق، وكذا الدائر في اليمن، والأخطر من كل ذلك الانقسام بين أهل فلسطين، واستعار الخلاف العربي الإيراني والتحافه بزي المذهبية البغيضة، كل ذلك يشير للنكبات الأخرى التي صاحبت نكبتنا الأم؛ فكل فساد يصل إلينا إنما أصله من النكبة الكبرى، وكلها خلافات سياسات تتم بغطاء ديني أو مذهبي كاذبيْن، ولا مصلحة لأحد في الخلاف إلا العدو.
(5)
بعد الإعلان عن قيام الكيان الغاصب بشهر اتجهت من فرنسا سفينة "ألتالينا" التابعة لأحد التنظيمات الإرهابية الصهيونية "الإيتسيل" بقيادة بيجين، وعليها سلاح بكمية كبيرة، وأراد بن جوريون "رئيس الوزراء" نزع السلاح من كل التنظيمات وحصره بيد الجيش، لم يمانع "الإيتسيل" حينها إلا أنه أراد الاحتفاظ لنفسه ببعض السلاح، حينها رأى بن جوريون طلب بيجين تمردا، اشترك تنظيم "الهاجاناه" في اقتحام السفينة وكان من بينهم رابين، ودار قتال بين التنظيمات المختلفة انتهى بمقتل 19 مغتصِبا، يروي بيجين أنه أمر رجال الإيتسيل بعدم إطلاق النار وصرخ "حرب أهلية، مستحيل"، وقال "لو كانت حرب أهلية متبادلة في إسرائيل، لكانت دُمرت إسرائيل".
أدرك العدو أهمية عدم الانجرار لاقتتال أهلي، وسعى بكل جهده لا نخراطنا نحن فيه، فنجح في منعه عنده وبثّه عندنا، وأصبحنا ننتظر مَن يخرج في كل قُطْر ليتجرع السم لأجل إنقاذ الباقي من أهله ووطنه.
(6)
مع الذكرى يتجدد الجرح ومعه العزم لأجل التحرير الكامل من البحر للنهر، ومعها تبرز الحاجة لأجل إنهاء أي انقسام فلسطيني قبل أي شيء، وإعمار كل شبر تضرر من العدوان، ومع النكبات المتفرعة عنها تحتاج الأمة للعقلاء الذين يسعون لإنهاء الاحتقانات السياسية الداخلية وكذلك الإقليمية والطائفية والمذهبية، فدماء الأمة أكرم من أن تراق لأجل السياسة ويسعد بإهراقها عدو بغيض ويقتات عليها مستبد منبطح.
(7)
ما تربينا عليه صاغه قباني ولحّنه عبد الوهاب وغنته الكوكب، في زمن اشتبك الفن فيه مع هم أمته وقضيته، خلاصة ما جمعهم أن "إلى فلسطين طريق واحد.. يمر من فوهة بندقية".