لعل أهم مظاهر الدولة التي يحاول الانقلابيون التأسيس لها، أنها لا تكف عن تغيير جلدها كل يوم، والتلون كل حين بلون "ظاهرة الحرباء"، وإن كانت حقائقها هي هي، وجوهر تكوينها ثابت لا يتغير. نحن نلهث كل يوم في متابعة تقليعات ومساخر هذه الدولة وهزلياتها، ونتابع مشاهد مسرحياتها العبثية بالفرجة والاندهاش ثم التعليق والسخرية، لكنها تأبى إلا أن تصرخ لنا بحقيقتها في كل شيء: أنها "دولة
الفنكوش".
لقد كتبنا عنها من قبل أنها دولة الضد، التي هي تكوين غير طبيعي بل عكسي يقف على الضد من كل أسس وقواعد بناء الدول، ورأيناها من قبل دولة حلية زائفة وزينة خادعة وبهرجة كاذبة، دولة نصب واحتيال، اجتمع فيها كل غير معقول ومحال، دولة الشخص الذي ابتلع كل المؤسسات، ودولة القانون الغائب المغيب باسم القانون الغالب والمتغلب، ودولة القضاء على الدولة والقضاء، ودولة
الإعلام بنهاية الإعلام، ودولة الأمن لأمن الدولة.. دولة تجسيد الطائفية في ثوب الوحدة الوطنية، وتأجيج الحرب الأهلية باسم السلام الأهلي والاجتماعي، ودولة الحفاظ على كل شبر في الوطن لكن لغير الوطن بل لأعدائه، في صعيده وواديه وسينائه.
لكنها بكل جدارة استحقت لقب الفنكوش؛ ذلك الاسم الذي يعبر عن المنتج الكاذب، الذي تقام لها دعاية وتهلل له الأبواق، وتعلق باسمه اللافتات على قارعة كل طريق، ويتحدث الناس عنه كل صباح ومساء، ثم لا يكون شيئا، ولا تجد منه إلا سرابا وخيالا وأوهاما. وهي كلمة لا تجد لها أصلا في لغتنا لأنها من لغة الاستبداد والاستحمار التي لا تعرفها النفس العربية الأبية ذات الأنفة والعزة، فهي كلمة من دولة العصر: دولة الفنكوش. إنها الدولة التي تبيع الوهم للمواطن في كل قراراتها ووعودها، وسياساتها وممارساتها، وخطاباتها وادعاءاتها، تدهن له الهواء، وتركه يمضغ الماء، وتعبئ له السم في الدواء. إنها دولة الإعلان التي تروج لبضاعتها الراكدة الكاسدة الفاسدة في علب ملونة وتلفها في دعايات براقة تستغل غفلة المغفلين. إن سياسات الفنكشة هي الثابت الأساسي لمنظومة 3 يوليو التي تقترب من عامها الثاني، وهما بحق عامان من الفنكشة، إنها سياسات الدولة الفاشلة التي تصر على أنها ناجحة.
مظاهر الفنكشة لا تكاد اليوم تعد ولا تحصى، وقد كنا غضضنا الطرف عن بعضها من قبل، لكن اتساع الظاهرة وهيمنتها على كل مكونات هذه الدولة الميمونة، يضطرنا إلى إعادة النظر في بعض أخطر الأمور التي دهستها عجلات القطار الفنكوشي وتجاوب معها كل الذين باعوا عقولهم وضمائرهم وتاريخهم ومبادئهم وقيمهم، أو بالجملة: باعوا أنفسهم وارتضوا بالفنكوش ثمنا بخسا، فصاروا يتنافسون في ابتداع معجم فنكوشي كتب من مادة الأوهام والإعلان الفارغ.
لقد كان أول بيت في قصيدة هذه الدولة الميمنة، وأول لبنة في صرحها الموهوم هو (دستور الفنكوش). هذا الدستور المسلوق من دستور مختطف مسروق ما كان إلا حالة فنكوشية بكل جدارة وأهلية. لقد جرت له دعاية كاذبة خادعة، وعدت بتعديلات وآلت إلى تشويهات وإصدار وثيقة لم يعرف من استفتوا عليها إن كانت تعديلا أو تبديلا أو دستورا مختلفا تماما. ألفت له لجنتان: لجنة فنية ثم لجنة مضمون، وعلى عكس كل التجارب وكل ما هو معقول، عمل الفنيون قبل اللاعبين بالمحتوى. ثم تعالى الضحكات الباكيات حين ضربت اللجنة الثانية بما قامت به الأولى عرض الحائط وكأن شيئا لم يكن. أما تشكيل اللجنة التى ضمت خمسين عضوا فقد ادعى الفناكيش أنها ممثلة لأطياف المجتمع ومعبرة عن إرادته في مصادمة صريحة للكلمات التي تنطق بها الألسنة وللغة العربية ولكل منطق، بل لما تشاعده العيون وتلمسه الأيدي: لقد صار التعيين انتخابا، والاختيار السلطوي إرادة شعبية، والإقصاء والاستبعاد للتيارات الأوسع انتشارا تعبيرا عن الإجماع الوطني والتوافق المجتمعي.. وما إليه من الهري والهراء.
أما الثمرة فكانت دستورا فنكوشيا بمعنى الكلمة. فالديباجة التى وعدت بالدولة ذات الحكم المدني صدق عليها إبليس ظنه فأتت بوزير الدفاع رئيسا لدولة الفنكوش، وتم تثبيت وزير الدفاع في منصبه ثماني سنوات وتحصينه من العزل، وفتحت مجال المحاكمات العسكرية للمدنيين، ونتج عنها عسكرة دموية غير مسبوقة. حتى لو أرادوا بالمدنية المفهوم العلماني: فأين ذلك من استخدام الدين في كل شيء حتى في ضرب الدين نفسه، وأين هذا من عسكرة الدين وإثارة البلبلة الاجتماعية والدينية لأغراض سياسية وقحة وفجة.. ثم يقال ديباجة ألمعية غير مسبوقة! تفاخرت الديباجة برموز
مصر، وعلى رأسهم مؤسس فكرة الوطنية المصرية ومجدد النهضة العلمية في مصر الحديثة "رفاعة الطهطاوي"، هذا بينما حفيده وسميه "السفير رفاعة الطهطاوي" في سجون العسكر من أول يوم للانقلاب. أليس هذا من العجب العجاب؟ أليس هذا من الفنكشة الدستورية المزرية؟
أما المتن فقد امتلأ بالبقع الفنكوشية التي ما زادها الواقع القمعي الدموي المتواصل إلا ظلما وظلاما. فباب الحريات الذي ضج به أدعياء المدنية والليبرالية تم دهسه تحت بيادة العسكر، وجرى تمزيقه بفعل ممارسات الدولة البوليسية العسكرية التي تجاوزت كل الحدود: تقتيلا وتنكيلا واعتقالا وانتهاكا للحرمات وتكميما للأصوات وغلقا للنوافذ والصحف والشاشات ومحاصرة للميادين والساحات، وأحكاما بالإعدام والمؤبد للشباب والفتيات، واجتياحا متصهينا للقرى والأحياء والنواحي المختلفة عبر جغرافيا الوطن، بل وتشريعا قنن كل ذلك ووضع الشعب كله فى دائرة وتحت سيف التجريم فهذا قانون لمنع التظاهر وتجريمه، وهذا قانون يشكل غطاءً للاعتقال وإعمال الطوارىء والاستثناء تحت مسمى الحبس الاحتياطى الذى صار بلا حد وم دون سقف، وهذا قانون الكيانات الإرهابية الذى يجعل كل الكيانات تحت مقصلة الاتهام بالإرهاب، فصارت كيانات إرهابية محتملة، إن باب الحريات فنكوش كبير، ولم يكسر باب مثل هذا الباب الخطير.
وباب حقوق العمال والفلاحين والفقراء من المواطنين، أين هو من طرد العمال ومطاردتهم، وسياسات إفقار الفلاح وإذلاله، ورفع الدعم عن الكادحين، ورفع الأعباء عن الكانزين، والتلاعب الحد الأدنى والأقصى في سياسات فنكشة تلاعب بأحلام الناس وطموحاتهم بل بمعايشهم وضروراتهم؟ أين هي من الأسعار النارية التي تأكل دخولا نحيفة لا وزن لها في الأحوال العادية ولا تسمن ولا تغني من جوع؟ أين هذا الدستور من مواجع المصريين منذ أن تم إصداره تحت خط نيران العسكرة؟ أين هو من نظام الحكم الذي تحول في غمضة عين من مؤسسات إلى شخص يريد ألا يُسأل عما يفعل، وألا يراجع عما يصدر منه من قرارات وقوانين ووعود وفناكيش؟!
إن دولة الفنكوش ودستورها ليست إلا تجسيدا شديد الوضوح لغياب الشرعية السياسية الحقة، وإحلالها بشرعية الذراع وقانون الغاب، شرعية البقاء للأقوى ولمن يملك السلاح، شرعية الصوت الواحد الغالب؛ الصوت المحتال الكاذب، شرعية الإعدام، شرعية وطء الدستور والقانون والمنطق والإنسانية.. بالأقدام.. لقد حاولت هذه الدولة فنكشة أي لون من الشرعية، لكنها في النهاية فشلت وسيطر عليها روح الاحتيال في كل شيء، وتحت وطأة غلبة السحر على الساحر صارت بحق "دولة الفنكوش" في كل شيء.