في الوقت الذي تتجه فيه أنظار العالم نحو الآثار التي بنتها زنوبيا ملكة تدمر في
سوريا قبل الميلاد، بعد سيطرة تنظيم الدولة على المدينة، تتجه أنظار السوريين نحو "الجحيم" الذي بناه النظام السوري من جثث ودماء المواطنين.
"الجحيم" الذي دخل ضمن قائمة أخطر سجون العالم، جعل سوريا أول دولة عربية تنافس في لائحة الإجرام بخصوص المعتقلين، ووفق موقع "كريمينال جاستيس ديغري هاب"، فقد وضع
سجن تدمر، برفقة "المعسكر 22" في كوريا الشمالية، وسجن كارانديرو في البرازيل، وسجن "رايكرز آيلند" في مدينة نيويورك بالولايات المتحدة الأمريكية، وهي السجون الأبشع في التاريخ الحديث.
يصف سجين سابق نقلت عنه منظمة العفو الدولية، الحياة في تدمر بأنها "أشبه بالسير في حقل ألغام؛ فقد يفاجئك الموت في أية لحظة، إما بسبب
التعذيب أو وحشية السجَّانين أو المرض أو الإعدام".
ويشار عادة إلى سجن تدمر في سوريا بأنه مكان "الداخل إليه مفقود والخارج منه مولود"، وقد اكتسب السجن هذه السمعة السيئة بسبب الأنباء المتواصلة على مدى سنوات عديدة حول ممارسة التعذيب وسوء المعاملة بصورة منهجية فيه.
يصف الكاتب مصطفى خليفة، وهو أحد المخرجين السوريين المسيحيين، قضى زهاء عشرة أعوام في السجن بتهمة الانضمام إلى الإخوان المسلمين، في روايته "القوقعة" التي تتحدث عن السجن، فيقول: "في السجن الصحراوي، سيتساوى لديك الموت والحياة، وفي لحظات يصبح الموت أمنية".
يقع سجن تدمر في بلدة تدمر الصحراوية في محافظة حمص على بعد 250 كيلومترا شمال شرق دمشق. بنته سلطة الانتداب الفرنسي في الثلث الأول من القرن العشرين واستخدمته ثكنة عسكرية، لكنه استخدم فيما بعد سجنا للمجندين والعسكريين المتهمين بارتكاب مخالفات أثناء خدمتهم أو جرائم جنائية عادية.
منذ مطلع السبعينيات بدأ حافظ الأسد باستخدام سجن تدمر لاحتجاز المعتقلين السياسيين بعيدا عن المدن، وفي معزل عن العالم، لكن الاحتجاز لم يكن يستمر أكثر من شهور معدودة. أما السمعة العالمية الرديئة التي اكتسبها، وانفرد بها هذا السجن الرهيب، فترجع بداياتها إلى عام 1979 حين بدأت السلطات بإرسال أعداد كبيرة من السجناء السياسيين إليه، حيث يتم فصلهم عن العسكريين المحتجزين.
ويعتبر سجن تدمر أكبر سجون سوريا، وأسوأها سمعة، فقد اشتهر بما يلقاه المعتقلون من المعاملة الوحشية والتعذيب المنهجي اليومي غير الإنساني الذي أودى بحياة كثير منهم أو ترك بصمات لا تمحى على نفسيات وشخصيات من بقوا على قيد الحياة.
ويخضع السجن لإدارة الشرطة العسكرية، لكن مسؤولية السجناء السياسيين من اختصاص المخابرات العسكرية، وتقوم قوة من الوحدات الخاصة بحراسة السجن. وباعتباره سجنا عسكريا فإنه لا يخضع لإشراف وزارة العدل التي تجري عمليات تفتيش للسجون المدنية في فترات متباينة (منظمة العفو الدولية: سوريا تعذيب ويأس وتجريد من الإنسانية في سجن تدمر العسكري).
مجزرة السجن
شهد سجن تدمر الواقع في مدينة تدمر الصحراوية، نحو 200 كلم شمال شرق العاصمة السورية دمشق، واحدة من كبريات المجازر التي وقعت أوائل ثمانينيات القرن العشرين.
وقد نفذت المجزرة في عهد الرئيس الراحل حافظ الأسد، وتحديدا بتاريخ 27 حزيران/ يونيو 1980، وأودت بحياة مئات السجناء من مختلف المستويات الاجتماعية والسياسية، غالبيتهم محسوبون على جماعة الإخوان المسلمين المعارضة.
إثر مجزرة مدرسة المدفعية التي ذهب ضحيتها بحسب المصادر السورية الرسمية 32 قتيلا و 54 جريحا من الطلاب الضباط، والتي أنكر الإخوان المسلمون معرفتهم بها قبل حدوثها، أو أي صلة لهم بها بينما تبنتها مجموعة عدنان عقلة في الطليعة المقاتلة، فقد شنت الأجهزة الأمنية حملات مكثفة من الاعتقال وتمشيط المدن والبلدات السورية. ولم تمض أسابيع معدودة حتى بلغ عدد المعتقلين زهاء ثمانية آلاف معتقل، وقدم أمام محكمة أمن الدولة بضعة وعشرون معتقلا حكمت عليهم بالإعدام الفوري، واجتاحت البلاد موجة من القمع وإظهار المشاعر المعادية.
يقول أسامة الحلاق وهو أحد الذين سجنوا في سجن تدمر: "حين تم نقلي إلى سجن تدمر بتاريخ 24/ 2 /1981 رأيت آثار الطلقات على سقف وجدران المهجع، وكان من جملة ما رأيته قطعة من فروة رأس أحد السجناء ملتصقة بسقف الغرفة".
وأضاف: "ما بين عام 1980 و1996 كان زبانية النظام يدفنون الجثث في منطقة قريبة من سجن تدمر العسكري وتدعى هذه المنطقة "وادي عويضة"، حيث دفن هناك ما يزيد على 20 ألف سجين ممن قضوا تحت التعذيب، أو أعدموا في باحات السجن، ولقد شهدت شخصيا إعدام الكثير منهم حيث كنت في غرفة تطل على هذه الباحة، وأذكر أني رأيت إعدام 200 شخص في يوم واحد، وبعد أن يتم الإعدام تأتي سيارة شاحنة كبيرة ويرمون الجثث بداخلها، حيث كان يقوم سفاحان من كلاب السلطة بالإمساك بالجثة، واحد من الكتفين والآخر من الرجلين ويلوحون بها ثم يرمونها في تلك الشاحنة، وكنا نحصي عدد الجثث من صوت الارتطام".
يقول الكاتب السوري وأحد المعتقلين السابقين في السجن، ياسين الحاج صالح: "هلا أنا ما بعرف تدمر.. يعني يهلني ها الضخامة وها الجلالة هذا، إنه معقول ما شافوا مكان يحطوا فيه السجن الحقير غير بهذا المكان العظيم الرائع هذا".