كتاب عربي 21

المقاومة والأمة

1300x600
من الصعب الثبات على الموقف الأخلاقي في الحروب الأهلية وأزمنة الاضطراب العظيم، إلا أن هذه الأزمنة ذاتها تجعل من ذلك الصعب ضرورةَ بقاء بقدر ما تجعل ضرورات البقاء صعبةَ المنال.

وإن موقفا يفرق بين حكم مستبد ومقاومة نبيلة اضطرتهما دواعي الجغرافيا والتاريخ أن يتحالفا لهو من هذه الضرورات. وكان من دواعي القلق أن يكون المنتمون  لشعار "ضد الاستبداد ومع المقاومة" منذ 2011 حتى اليوم قليلين إلى هذا الحد. 

فمِن معسكر المقاومة اعترض على هذا الشعار من ظن فيه ترددا عن الدعم غير المشروط لها، والحقيقة أن من حذروا المقاومة من حليف هو على هذا القدر من السوء، الأخلاقي والعملي، أحرص عليها وأحفظ لها ممن حثوها على التماهي معه. 

ومِن المعسكر الآخر رأى البعض الشعار ترددا في الإدانة غير المشروطة لقتل المدنيين والبطش بالعزّل وقصف حمص ردا على قصف إسرائيل لدمشق، والحقيقة أن دعم المقاومة كان سيعطي مصداقية لأي حركة معارضة تتبناه، وللأسف هذا لم يحدث من أي من هذه الحركات، فبدا الاتجاه نحو التغيير في سوريا تغييرا يصب في صالح الأمريكيين لتعويض تغيير بدا وكأنه في غير صالحهم في مصر في 2011، وكأن ما يحدث في سوريا نقيض لما حدث في مصر مهما زُعِمَ أنه امتداد له.

ثم إن من يزعم أنه ضد الاستبداد دون أن يكون مع المقاومة مشكوك في ضديته للاستبداد، لأنه يعلم أنه لا يمكن أن يحكم في هذه البلاد شخص يكون خائنا وديمقراطيا في الوقت ذاته، لأن أهل البلاد لا ينتخبون الخونة، إلا إذا زورت الانتخابات أو أجريت تحت تهديد سلاح احتلال أجنبي أو انقلاب عسكري. 

فإن كان عزم على أن يستعين بالاستعمار على الاستبداد، أي عزم على الخيانة، فإنه سيستحيل عليه أن يقيم حكماً ديمقراطياً إذا انتصر، فسيستبد هو الآخر، فلا يكون ثمة إنجاز من وراء حركته تلك إلا إحلال مستبد يحبه المستعمرون محل مستبد يكرهونه. وإن كان الخيار بين مستبدّين، فأبْغَضُهُما إلى الاستعمار خيرهما لنا.

كذلك فإن من يزعم أنه مع المقاومة، ثم لا يعادي الاستبداد، مشكوك في صدق دعمه للمقاومة. إنه يعلم أن هذا الحليف يؤذي المقاومة ويضطرها إلى ما لا يشبهها، ويحتمي بها ولا يحميها، ويظلم الناس ظلما قبيحا ثم يحملها وزره. 

ولو قال قائل أن التغاضي عن البطش بالمدنيين ضرورة لحماية المقاومة، سألناه، ها هو البطش دائر في الناس منذ أربع سنوات، فهل حماها أم عرضها لخطر أكبر؟ أما كان ممكنا احتواء الأمر في أوله بانتخابات رئاسية أو بتقاسم للسلطة أو بأي طريقة كانت؟ أما كان ممكنا احتواء الأمر في آخره بالاشتباك مع إسرائيل بما ينفر آلاف الشباب المتطوعين للقتال في الحرب الأهلية عن قياداتهم؟ 

وهنا ليسمح لي القارئ بالاستطراد، فإن الاشتباك مع العدو المشترك ربما يكون المخرج الأخير من هذه الحرب الأهلية العامة. فهذه حرب متطوعين، والمتطوعون، أيا كانت درجة وعيهم السياسي، أتى بهم من أتى معتمدا على مشاهد الأطفال المذبوحين والمدن المدمرة، وقال لهم إنهم يأتون لينتقموا لمدنيين مستضعفين، لا ليقاتلوا جنبا إلى جنب مع إسرائيل. فإن وجدوا أنفسهم في خندق واحد معها، وأمرهم قادتهم بالقتال، فإن أكثرهم سيتمرد على قادته ولن يفعل. هذا الرهان على الأقل، أقرب للنجاح في إنهاء الحرب، من الرهان على استمرارها حتى ينهزم طرف أو يتعب الطرفان. 

 لقد تربَّت الأمة كلها على أن القتال إلى جانب إسرائيل هو تعريف الخيانة العظمى. وإن كان البعض خائفا من تجربة الحرب الأهلية اللبنانية، حيث تحالف جزء معتبر مع المجتمع مع إسرائيل، فزعمي أنها تجربة استثنائية بسبب تركيبة لبنان وتاريخه. باختصار إن هذه الأمة، أو أكثريتها، لا يمكن أن تصبح نسخة أخرى من جيش لحد. صحيح أن تاريخ الأمة مليء بالخيانات من بشير جميل إلى أنور السادات، ولكن لم يحدث أن تطوع آلاف الشباب العرب والمسلمين، بشكل جماعي، ليقاتلوا في خندق واحد مع إسرائيل. 

فإن كان الاشتباك مع العدو المشترك باباً من أبواب إنهاء هذه الحرب، فهو سبب آخر يضاف إلى ألف سبب، للحفاظ على المقاومة اللبنانية وحمايتها، وهي أكفأ من قاوم الاحتلال منذ وجد، ضرورة بقاء، لا للمقاومة وحدها، بل للأمة كلها. 

هذا على المستوى الاستراتيجي، أما على المستوى الأخلاقي، فالمقاومة اللبنانية لم تنخرط في قمع الاحتجاجات السلمية، ولا أطلقت النار على العزل، إنما تدخلت بعد أن سيطرت جماعات مسلحة معادية لها على خطوط إمدادها. وإن كان دعمها السياسي للحكم السوري سبق ذلك، فإنه يظل رأيا قد يُختَلَفُ معها فيه، لا جريمة يعاقب عليها صاحبها بشن الحرب الشاملة عليه وعلى أهله. 

وهو بعدُ رأي لا يخلو من خوف على الناس من حرب أهلية كان يراها من يراها في  2011 آتية لا محالة بسبب تركيبة البلد الطائفية وشبكة تحالفاته الجيوستراتيجية. وهو رأي يظن أصحابه أن غياب النظام السوري لن يعقبه حكم مدني ديمقراطي مستقل، بل استمرار الاقتتال الأهلي، كما كان الحال في أفغانستان التسعينيات، تغذيه قوى إقليمية ودولية وتُستهدف فيه المقاومة اللبنانية تحديدا. 

فحين تدخلت المقاومة اللبنانية عسكريا، كان ذلك اضطرارا ودفاعا عن خطوط إمدادٍ، إذا انقطعت، أصبحت المقاومة لقمة سائغة لإسرائيل، فهو دفاع عن النفس. وكان أيضاً محاولة لإنقاذ البلد من مصير أفغاني أو صومالي، تستمر فيه الحرب الأهلية وتنتشر سواء بقي النظام أو سقط. وإن الناس يعلمون اليوم، أن ذلك التقدير لم يكن خاطئا وأن مسألة بقاء الحكم السوري أو زواله لن تؤثر في مصير حرب خرجت عن حدود سوريا أصلاً. 

لذلك أقول إن التفرقة في التقييم الأخلاقي واجبة بين المقاومة اللبنانية والحكومة السورية، فالمختار غير المضطر، ومن دخل الحرب سلاحاً ضد سلاح، غير من بدأها سلاحاً ضد عزل، ثم إن من وهب ابنه لبلده غير من وهب بلده لابنه.

وأخيراً، فإنه لا يُعقل، ولا يمكن أن يقبل أحد، أن تكون ثمرة الثورات العربية، وثمرة كل الشهداء الذين أسقطوا مبارك وبن علي، تهديد المقاومة الوحيدة التي انتصرت على إسرائيل وحررت كامل ترابها الوطني دون اتفاقية سلام، وصمدت في الحرب حين سالم غيرها ثلاثين سنة، وتفادت الدخول في أي نزاع أهلي في بلدها ما وسعها ذلك، حتى اضطرها عدوها وحليفها معاً إلى ما اضطراها إليه.

إن أهم إنجاز، على المستوى الاستراتيجي، كان من الممكن لهذه الثورات العربية في 2011 أن تحققه، ولم تحققه مع الأسف حتى الآن، هو إخراج مصر من التحالف الاستراتيجي مع الولايات المتحدة، وإلغاء اتفاقية كامب ديفيد، لأن خروج مصر عن يد الأمريكيين كان يعني خروج المنطقة كلها، ولأن تحالفا مصريا إيرانيا كان يضع إسرائيل بين شقي رحى، مقاومة في جنوب لبنان بعمق استراتيجي في سوريا والعراق وإيران، أي من البحر الأبيض إلى وسط آسيا، ومقاومة في غزة بعمق استراتيجي في مصر والسودان، أي من البحر الأبيض إلى وسط إفريقيا. 

أما وقد فشلت ثوراتنا حتى الآن في التقدم نحو هذه الخطوة التحررية ضد الاستعمار (واللوم الكارثي هنا يقع على قرارات جماعة الإخوان المسلمين المصرية تحديداً)، فلا أقل من الحفاظ على ما كان منجزاً قبلها، وهو نموذج المقاومة اللبنانية وانتصارها الفذ على الاحتلال.

أعود إذن لأنهي هذا المقال بالموقف الأخلاقي الذي بدأته به، حماية المقاومة للبنانية، حماية للأمة كلها. وما كنت أحسبني أحيا إلى زمن تحتاج فيه حماية المقاومة إلى مقال أو حجاج، ولا كنت أظن أن يوما سيأتي تضطر فيه المقاومة إلى التلويح بالتعبئة العامة حماية لنفسها، لا من إسرائيل، بل من أهلها. لكنه زمن رديء. وحماية المقاومة حماية للأمة لا من إسرائيل فحسب، بل من انتشار هذه الحرب الأهلية واستمرارها إلى ما لا نهاية، حماية للأمة من مصير رُوَانْدِيٍّ، وحماية لتراث الثورات العربية ومعناها. حماية المقاومة اللبنانية واجب علينا جميعاً.

إلا أن من شروط هذه الحماية إدانة الاستبداد والطغيان، حتى وإن كان حليفاً، وربما الاشتباك مع عدو الأمة المشترك...

"فمن العداوة ما ينالك نفعه....ومن الصداقة ما يضر ويؤلمُ".