ترددت كثيرا في الكتابة عن موضوع السلمية، ولكن جانب من نفسى شدني لكتب، وجانب آخر شدّني بعدم الكتابة، فغلب جانب الكتابة فتوكلت على الله: إن فطرة الإنسان أى إنسان تحث على حب الخير وإفادة الجميع، ولم الشمل وحب الغير وبناء الأوطان، ومقاومة فساد القتلة الظلمة الخونة، والقصاص منهم بالعدل ولا تقبل فطرة أي إنسان الإسراف في القتل واستباحة الدماء بأي شكل من الأشكال، يقول الله تعالى في سورة الإسراء (وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا ) وشرط أن على تكون منصورا عدم الإسراف في القتل إذا كنت ولى الدم.
إن الإنسان المسلم بطبيعته سلمي مسالم للناس لجميع الناس متسامح يعمل لتكوين حضارة تمتد مئات السنين، ومشروع قائم على العدل والتسامح وقائم على تربية الشعوب كي تتخذ قرارها، ولا يسوقها فردا أيا كان هذا الفرد. مشروع قائم على رد المظالم والقصاص ممن تجبر وظلم وأفسد، ومقاومته بكافة الطرق التي ترد بغيه وظلمه وفساده. فتربية الشعوب تأخذ وقتا طويلا لكنها تثمر وتأتى بنفائس النفوس ومعادن الرجال والأخلاق الكريمة والخلق القويم السليم . وأنبه حضراتكم أنني عندما أقول التسامح ولم الشمل يكون مساويا لها عدم الخنوع والسلبية والخوف.
السلمية من نهج ما قبلنا
قصة هابيل وقابيل:- تجسد لنا موقفا ونوعا عجيبا من السلمية: هم أخوة، امتلأ الحسد والغل قلب قابيل لأن الله تقبل عمل أخيه هابيل فظهرت فطرة هابيل في ذلك الموقف وسلميته، قال الله تعالى في سورة المائدة (لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ)، إن الله سبحانه وتعالى في بداية الخلق يريد أن يذكرنا من البداية ويرسخ مفهوما واضحا وجليا، وهو نبذ العنف والسلمية. لأن هابيل لا يستطيع أن يقتل أخيه بدون ذنب اقترفه ولا يستطيع أن يقتله لمجرد أن أخاه يفكر في قتله، ولكن قال له (إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ ) سورة المائدة.
إن منهج هابيل هنا رفض مبدأ القتل حتى ولو كان هو الأقوى والأجدر. إنه يرسخ لمبدأ خالد في القرآن الكريم إلى قيام الساعة (لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ ) وهذا نوع من أنواع السلمية، وأقول مرة أخرى هذا لا يعنى أنك تكون سلبي لا تدافع عن عرضك ومالك وأهلك ووطنك ودينك ولكن تريث ولا بد أن يكون دفاعك بضوابط وشروط ووسائل وكيفية معينة، وواضحة وجلية لأن بداية القتل معلومة ولكن نهايته غير معلومة.
نوح وقومه: دعا نوح في قومه ألف سنة إلا خمسين داعيا بالحكمة والموعظة الحسنة مذكّرا لقومه بخالقهم ورازقهم ولكن لم يستجيب من قومه إلا القليل فدع ربه في سورة نوح (قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا) استنفد نوح كل وسائل الدعوة وظل فيهم 950 سنة داعيا لا يقتل منهم أحدا ولكن ظل صابرا حتى يأتي أمر الله وبعد استفراغه جميع الوسائل دعا عليهم (وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا) وهذا نوع من أنواع السلمية المتحلية بالدعاء فاستجاب الله تعالى دعاءه وأهلك قومه.
موسى وقومه :- ولد موسى في مصر ونشأ في قصر، وبيت فرعون مصر، وترعرع فيه وكبر وكان من بني إسرائيل، وكان فرعون مصر يستبد بقومه وبني إسرائيل وكان موسى قوى البنيان والجسم وقد ذكر القرآن هذا الموقف في سورة القصص (وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ ) وكزة موسى قتلت شخص فقال (قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ) كان شديد الألم والتأثر بقتل هذا الشخص وأنه قتله بدون قصد وبعد يوم كان خائفا (فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ) قد علم وأدرك موسى أن الإسراف في القتل بدون تصويب ولا مراجعة ولا مباينة وبدون وجه حق لأنه فقط من عدوه أدرك أنه إذا استمر على ذلك لا يكون أبدا من المصلحين ويكون من القوم الجبارين كفرعون وأمثاله. يستفاد من هنا إن إسرافك في القتل تأخذ صفة الجبار في الأرض وأن القتل الغير مقصود كما قتل موسى الذي من عدوه يوجب الاستغفار والإنابة والغفران من رب العالمين لأنها روح حتى ولو كانت غير مسلمة، وما بالك إن كانت مسلمة فإن الجرم أشد. و جاء رجل من المدين قال (وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) {سورة القصص} وهذا نوع من أنواع السلمية وهو الخروج من البلد الظالم أهلها للإعداد، والرجوع مرة أخرى للمواجهة التي لم تكن متكافئة. فبعد ما أتم الإعداد هل جاء إلى فرعون بالسلاح والقضاء عليه، وتفكيك جيشه ونظامه ومؤسساته؟ لا ... ولكن جاء لأخذ بني إسرائيل لدخول الأرض المقدسة فقط، ولكن إرادة الله تعلمنا الكثير .
إن موسى أتى إلى مصر لكي يأخذ قومه ولكن الله أراد أن يجعل هلاك فرعون على يده ليكون عبرة للمعتبرين. وما يدريك لعل الله يأتي بالفرج من عنده بالطريقة التي يراه هو سبحانه لا الطريقة التي تراها أنت، وفى التاريخ دروس ومواقف من هذا على سبيل المثال غزوة بدر والأحزاب وحنين، وفى هذه الأوقات دخول الإخوان مجلس الشعب والرئاسة وتصدرهم المشهد بأكمله. على المسلم أن يستفرغ كل الطاقات والوسائل لجلب النصر، وعدم الاهتمام بكيفية تحديد النصر، لأن تحديد كيفية النصر يعلمها الله سبحانه وتعالى لا أنت، وعلى المسلم أن يسير وينتهج سنة الأنبياء والرسل والصالحين وذلك لأن الله سبحانه وتعالى لن يخذله أبدا ولن يتركه وحده (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ ) {سورة محمد}.
منبهات
بداية الإسراف في القتل معلومة ونهايته غير معلومة
فطرة الإنسان (أى المجتمع) جبلت على التجميع لا التفريق العدل لا الظلم
الله هو الذى ينظم هذا الكون ويدبر لك ... لا أنت .ز. فاعمل واستفرغ طاقاتك كلها والنصر من عند الله وحده
استمع لهذه الآية (وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ ) سورة الأنفال كرر قراءتها وخذ منها الدروس والعبر
النصر آت لا محالة ولكننا قوم نستعجل فاطمئن واهدأ بمراد الله .