كتاب عربي 21

"وينو البترول؟" الشفافية والسيادة الوطنية في قطاع الطاقة

1300x600
أهم حدث في تونس الأسبوع الماضي صنعه الإعلام البديل، وفرضه على الإعلام السائد: حملة افتراضية بوسم #وينو_البترول (أين النفط؟) يعكس أسئلة الرأي العام حول الغموض الذي يلف حسابات الدولة، فيما يخص قطاع الطاقة، أي المصدر الأساسي للعجز في الميزانية في الوقت الراهن، والتذمر من المواضيع الجانبية، خاصة تلك المسائل المتعلقة بالاستقطاب الإسلامي العلماني. 

الحملة تتويج لحملات أحزاب وقوى مدنية استمرت السنوات الأخيرة، وأفرزت حالة نضج ووعي بأهمية قطاع الطاقة، وخاصة الحاجة لتسييره بشكل شفاف من الدولة. 

المثير أن الحملة أدت إلى ردود فعل غريبة من قوى في الحكم، الآن أو قريبة منها، ترفض ضمنيا رسالة الشفافية في هذه الحملة، تحت عنوان "تونس لا تسبح على بحر من البترول". 

حتى إن مستشار السبسي السياسي وأمين عام حزبه صرح أنه "لا يوجد أي غاز في تونس". هل معقول أن يتحدث مسؤول سامي في الدولة بهذه السطحية؟! فرق بين القول إن تونس لاتسبح فوق بحر من النفط، وبين أنه لا يوجد شيء! 

المشكلة في قطاع الطاقة لم تثرها صفحات "فيسبوكية" و"جذوره" لا ترجع، مثلما يصور بعض الموالين للسلطة، لـ"خبراء" وهميين ومشرفين على صفحة تواصل اجتماعي، يحتسون القهوة ويتسلون بحملات على الإنترنت. 

الشكوك أثارتها أهم مؤسسات رقابية في الدولة بين سنتي 2012 و2014. خلال تلك الفترة تمت أهم مهام رقابية لمؤسسات عمومية، تعنى بالتسيير العمومي للطاقة؛ دائرة المحاسبات سنة 2012، وهيئة الرقابة المالية سنة 2014. 

التقريران يحتويان على ملاحق غير منشورة رغم أهميتها البالغة، وتتمثل أهم ملاحظات التقريرين في النقاط التالية:
 
- ضعف بالغ من المؤسسة التونسية للأنشطة البترولية في منظومة الرقابة ومتابعة الشركات المنتجة، (وهو مايسمح بالعديد من التجاوزات من الشركات البترولية على غرار دفعها ضرائب استكشاف في حين هي في طور الإنتاج).
 
- نقص الشفافيّة، يؤدي إلى شكوك حول ظروف إسناد العقود للشركات، وحول مدى تطابق العقود مع القانون الجاري (مجلة المحروقات).

- وجود عقود غير متكافئة، منذ عهد الدكتاتوريّة، بين الشركات الخاصّة العملاقة والدولة التونسية (نسبة مشاركة المؤسسة التونسية للأنشطة البترولية مشبوهة، وتطرح عديدا من التساؤلات).

 - ضعف فادح في رقابة المؤسسة التونسية للأنشطة البترولية على الآبار، وهو مايسمح بالعديد من التجاوزات من الشركات البترولية، على غرار دفع ضرائب استكشاف في طور الإنتاج، وفق قانون المحروقات لسنة 1999، الذي ينصّ على وجوب مشاركة الدولة التونسيّة في كلّ مشروع إنتاج لمحروقات مستخرجة من أراضيها.

- تقرير دائرة المحاسبات كان واضحا في تسجيل إخلالات أساسية، من بينها ضعف وتقصير في إدارة التخطيط الاستراتيجي للمؤسسة التونسية للأنشطة البترولية، وأيضا إخلالات خطيرة في نظام المعلومات، حيث إنه "اتّضح أن الإدارة العامة للطّاقة غير مرتبطة بالمواقع العالمية المتخصصة في توفير المعطيات المتعلقة بمجال الطّاقة، على غرار موقع PLATT’S المتخصص في مؤشر أسعار المحروقات، مما لا يساعد على حسن متابعة الظّرف الدولي والاطّلاع على التّجارب المقارنة".

الذين يهاجمون حملة "وينو البترول؟" ليسوا أغبياء، يعلمون أن المشكلة الأساسية هي الشفافية في قطاع الطاقة، ويهربون من ذلك إلى موضوع نفي أن تونس تسبح فوق بحيرة بترول. 

بالمناسبة العودة القوية بما في ذلك الإعلامية لـ"خبراء" كانوا شركاء سمسرة للطرابلسية (ما ذكر عن أحدهم أي "عماد درويش" في تقرير عبد الفتاح عمر) إلى الساحة الإعلامية، وقربهم من أحزاب في الحكمـ جزء من هذه المعادلة. 

المطالبة بالشفافية ورفض حزب الحكم عن ذلك أو صمتها في أقل الأحوال . من الواضح أن المشكلة الأساسية التي تعكس هذا الحشد العفوي الواسع، هي الشكوك المحيطة بتصرف الدولة في القطاع، وإذا تلبد ببعض المواطنين، وهم بأننا "نسبح فوق بحر بترول"، فذلك ناتج عن الغموض وغياب الشفافية. 

وقال البعض: "كنتم في الحكم.. لمَ لمْ تحركوا ساكنا في هذا القطاع؟"، سأرد عن نفسي وعن الحزب الذي كنت في قيادته. 

كتبت مرارا، بعد التحرر من واجب التحفظ، في السنة الأخيرة في موقع "عربي21" عن موضوع الطاقة، وتحديدا من باب غياب الشفافية. لن أقول إننا قمنا بكل ما يجب أن نقوم به، لكن فيما يلي ما حاولنا القيام به:

- من خلال مؤسسة رئاسة الجمهورية تبعا لمحدودية صلاحياتها التنفيذية في قطاع الطاقة، ركزنا على الدراسة وتوجيه الأسئلة. وعليه قمنا من خلال المعهد التونسي للدراسات الاسترتيجية بتكوين وحدة بحث في الطاقة منذ سنة 2012، خاصة فيما يتعلق بنزيف الدعم، وراسلنا المؤسسة التونسية للأنشطة البترولية مرارا حول الأرقام الخاصة ببيع وشراء النفط، غير أن المؤسسة تهربت من الرد.

- من خلال الرئاسة، وأيضا أعضاء الحكومة، ضغطنا من أجل التحري في القطاع عبر الأجهزة الرقابية للدولة. 

وهكذا كان أول من أذن بمهمة مأمورية لهيئة رقابة مالية في قطاع الطاقة، وزير أملاك الدولة والشؤون العقارية، سليم بن حميدان. وبسبب الاتفاقية مع صندوق النقد الدولي التي تقتضي مهام رقابية على عدد من المؤسسات العمومية، تم توحيد عمل الهيئات الرقابية، وأصدر وزير المالية إذن مأمورية للهيئة التابعة لوزارته في أيلول/ سبتمبر 2013، تحديدا. 

وهذا الذي سمح لهيئة الرقابة المالية بإنجاز أهم تقرير رقابي رسمي على "المؤسسة التونسية للأنشطة البترولية"، تم استكماله في آب/ أغسطس (أوت) 2014. وهذا التقرير هو أهم عمل استقضائي رسمي، يوثق الإخلالات في هذا القطاع، ويعد لبنة أولى في عمل رقابي شامل. 

- بالنسبة لكتلة نوابنا في المجلس التأسيسي، ساهمت بشكل مباشر في الضغط من أجل إدراج الفصول 12 و13، وإضافة فصل للفصل 19 في الدستور، وصوتت من أجل ذلك. 

وهي فصول تعيد تعريف علاقة الشعب التونسي بثوراته الطبيعية، وترسخ سيادته عليها، بعضها مر مثل الفصل 13. 

لكن بعضها الآخر لم يمر للأسف رغم ضغطنا من أجل ذلك، لكن نبقى أقلية. وأهمها إضافة الفصل 19، ويتضمن: "تنشر بالرائد الرسمي للجمهورية التونسية كل النصوص والعقود والاتفاقيات في مجال للاستكشاف والبحث وللاستغلال في الموارد للطبيعة في البلاد التونسية، يجب على كل الشركات الأجنبية والمحلية العمومية منها والخاصة أن تنشر بالرائد الرسمي جميع المعطيات للنتاج والمداخيل المحققة والمدفوعة لفائدة الدولة التونسية"، وهي إضافة تتعلق بأعلى درجات الشفافية، وتم اعتمادها في الولايات المتحدة منذ سنة 2010. 

- بالإضافة للدستور، تم الدفع في اتجاه أقصى درجات الشفاية، وعليه قام ممثلونا في لجنة الطاقة برفض التمديد لعقود تحوم حولها شبهات وغموض في آذار/ مارس، ونيسان/ أبريل (أفريل) 2014، لكن للأسف قام رئيس الحكومة بذلك، فيما بعج في غفلة من الجميع وبدعم من المحكمة الإدراية. 

الآن ماذا يمكن للتونسيين أن يفعلوا، بالإضافة إلى حملات افتراضية؟ هناك نقاش الآن على طريقين: لجنة تحقيق برلمانية، التي ضمنها الدستور مرة في السنة للمعارضة. ومشروع قانون يجسم معنى إضافة الفصل 19 التي تم رفضها، التي تفرض مراجعة جميع العقود ونشرها. 

يجب أن ننتبه أيضا إلى أن مشكلة الشفافية تتعلق بمشكلة حسابات الدولة المالية، وليس فقط المؤسسات البيروقراطية التي تتصرف في النفط. 

إلى الآن هناك شكوك حول الأرقام الفعلية للجباية البترولية في تونس. أحد التحقيقات الاستقصائية المالية التي جلبت الكثير من الجدل في الأسبوع الماضي، يتحدث -نشرية "أفركيان كونفيدانشيل" 28 أيار/ مايو (ماي) 2015- عن ثقب مالي في الميزانية المصرية، يقدر بأكثر من 9 مليار دولار، تتسرب من حسابات بنكية لحسابات أخرى سرية لمصلحة مسؤولين كبار في الدولة. 

أخيرا، الشفافية وحدها ليست الحل. موضوع الثروات الطبيعية مطروح في علاقة بنقص الثقة الكبير بين أهالي جهات مهمشة لعشرات السنوات، حيث توجد نسبة كبيرة من هذه الثروات ومؤسسة الدولة، التي تراجع دورها في استكشاف واستخراج ثرواتنا الوطنية لمصلحة خواص محليين وأجانب. وهنا الحل هو منوال تنموي يعتمد التمييز الإيجابي واللامركزية كإطار تنظيمي مثلما منصوص عليه في الدستور، وتستطيع القيام به حكومة مؤسسات دائمة، وليس حكومات انتقالية، مثلما كان الحال قبل الانتخابات الأخيرة.