احتفال باذخ ومودة تفيض على الوجوه ولكن أسئلة كثيرة ومحرجة تطرح ولا تجد الإجابة الشافية. هذه أجواء الاحتفال بذكرى تأسيس حزب حركة النهضة
التونسي الرابعة والثلاثين (34) الموافقة ليوم السادس من جوان (حزيران). الحزب حسن المعشر لكنه غيور على بيت سره. هناك داخل خطة بعيدة المدى يعرفها الجميع تربَّص باللحظة لا يتبينه السائل حتى بضرب الودع. أسباب قوة تتجمع بدقة بين يدي الحزب، لكنها بدت لنا قوة ظاهرة لباطن هش.
الساعة السويسرية
الصورة واضحة جدا في ذهن رجل الماكينة التنظيمية عبد الحميد الجلاصي. يعرف ما بين يديه ويتكلم بالأرقام. ويمكنه أن يجيب على كل الأسئلة المتعلقة بحسن سير الماكينة لكن دون خطاب الوعظ الذي يسند التنظيمات الدينية على الولاء والإيمان الذي يظهر بعضه عن قيادات سياسية أخرى. ولدى الرجل خطة عمل دقيقة بخصوص مؤتمر الحزب القادم. وإذا قارن المرء بين واقع الوهن الحزبي لدى مكونات الساحة السياسية وبين حكمة التنظيم النهضاوي وتماسكه، فإن المشهد الحالي يسمح بتوقع ما يكون في الساحة في قادم الأيام. حزب وحيد متماسك يمكنه أن يحكم وبجواره ذرات سياسية قد لا تسمح لها شعاراتها العالية بالاجتماع. أما إذا لم يفلح نداء تونس في عقد مؤتمره الذي يتأجل من عجز لا من حكمة فإن الفوضى السياسية ستدفع الجميع (وخاصة ممن لديهم مكاسب يخافون ضياعها) إلى الماكينة الأخيرة التي توحي بالطمأنينة. يقول لك النهضاوي ستطلب الساحة السياسية حزبا سياسيا ثانيا وكبيرا ولن تجده لكن النهضة ليست مسؤولية عن وهن جيرانها. ويطمئن النهضاوي إلى تحليله للراهن.
الإسفنجة الفكرية
تحت باب (قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق) تناول الحضور عشاء طيبا تحت أنغام موسيقى ملتزمة كثر فيها الدعاء والذكر وحضرت فلسطين والأمة العربية في جو إخواني يذكر رغم كل شيء بأن العشاء على إيقاع الموسيقى طقس سلطاني أرستقراطي قديم. لكن هذا الانفتاح لا يمكنه أن يخفي أنه داخل الوئام الأخوي السائد داخل الساعة التنظيمية السويسرية لا يتبين المرء بدقة المشروع الفكري الذي يقود الحزب/ الحركة الآن وهنا. فبين المرجعية الإسلامية التي تحدث عنها الدكتور عبد المجيد النجار وبين الخطاب العملي البراغماتي الذي ختم به الشيخ راشد
الغنوشي، توجد فراغات تحتاج إلى أسمنت لاحم. وأعتقد أن هذه الفراغات تجعل الحزب إسفنجة كبيرة تقبل كل شيء ولا تمسك أي شيء.
المرجعية الإسلامية هي مجال الانتماء الفكري للحزب على أساسها قام وبها يستمر. وهو يتمسك بها ويؤصلها في معركة التحرر الوطني المستمرة، وهي تبدو عنده صالحة بعد للاستقطاب والتحشيد بإعلاء خطاب الهوية العربية الإسلامية ولو بالتأكيد المتكرر على أن الحزب ليس الممثل الشرعي الوحيد لهذه الفكرة البحر. ولذلك فالنهضويون لا يقدمون إجابة عن الأسئلة التالية بعد:
هل النهضة حزب إسلام سياسي مما اعتدنا أن نصف قبل الربيع العربي ونقيس بتجارب أخرى سابقة مثل التجربة السودانية أو الإيرانية؟ أم هي الآن حزب سياسي في بلد مسلم لا يتدخل في عقائد الناس وضمائرهم ولكنه يحاول تخليقهم بأخلاق الإسلام؟ إن المرجعية الإسلامية هنا والآن صارت وعاء يحتاج إلى ملء بمادة قابلة للقراءة السياسية والاجتماعية. وهو سؤال يتجاوز النهضة إلى بقية الأحزاب ذات المرجعية الإسلامية في
الوطن العربي. ففي سياق بناء الديمقراطية يصبح الحديث عن الهوية محتاجا إلى مادة برنامجية اجتماعية. لذلك تتضح الأسئلة التالية أمام الحزب وتتحداه..
هل النهضة حزب ليبرالي (يميني) يقدم نجاعة الاستثمار الاقتصادي في عالم معولم على المسألة الاجتماعية في بلد تابع؟ أم هو حزب اجتماعي يعتمد أجهزة الدولة لخلق العدالة الاجتماعية بين فئات هشة وضعيفة؟
إن السؤال عن الهوية الاجتماعية للحزب وموقعه بين الطبقات الاجتماعية التي لا يمكن إنكار وجودها ولا تجاهل تناقضاتها الجذرية لا يمكن تغطيته بحديث الوئام المدني والتوافق الاجتماعي دخل الأخوة الإسلامية، إذ يصير خطاب الهوية تغطية غير صائبة عن الصراعات الاجتماعية المتجاوزة للأخلاق والتي تشق المجتمع كل مجتمع. السؤال الاجتماعي يتطلب إجابة فورية.
لقد مال خطاب الغنوشي في اختتام التظاهرة إلى التنمية الاجتماعية وإنصاف الفقراء بتفعيل قواعد الحكم المحلي التي أصَّلها الباب السابع من الدستور وانحاز إلى هذا الأفق من التفكير العملي بما كشف جيلين من التفكير يحتاجان إلى اللقاء داخل الإسنفجة لسد فراغاتها. وهو التحدي الحقيقي في الطريق إلى المؤتمر القادم. ثم داخل مسار الحزب الفكري اللاحق للمؤتمر.
توليد المظلومية
لكن عندما تلح على دفع النقاش إلى الهوية الاجتماعية للحزب، يهرب الخطاب إلى إكراهات اللحظة السياسية الراهنة. وهو المهرب الذي يوسع ثقوب الإسنفجة ولا يلحم مكونات الحزب المختلفة إلا بالعقيدة والمظلومية. فإذا طرح السؤال عن حدود استعمال المظلومية يتبين أن الحزب قد أضاف إليها فصلا آخر، هو فصل إسقاط حكومة الترويكا التي قادها الحزب بعد انتخابات 2011.
يعيش النهضويون مرارة إسقاط حكومتهم ويلقون اللّوم على شركائهم فيها وعلى بقية مكونات الصف السياسي الوطني الذي أعلن معارضته لهم قبل تشكيل حكومتهم. ويجدون من الوقائع الساطعة التي أشعرتهم دوما بأنهم ظلوا هدفا دائما للاستئصال. فالعمليات الإرهابية والاغتيالات كانت موجهة ضدهم والإضرابات المنفلتة كانت تستهدف وجودهم قبل أن تكون موجهة لقطف نتائج نمو اقتصادي لا وجود له في مرحلة انتقالية استلمت البلد في حالة خراب. خراب أقر به الجميع لكن استنزف به من تصدى للحكم.
يبرئ النهضاوي نفسه بالقول إنه لم يتمسك بالشرعية الانتخابية للحكم وحده وأنه عرض المشاركة على الجميع ولم يجد الشريك الشجاع. ثم يتخذ ذلك ذريعة للقول بأنه اضطر لاحقا للعمل مع عدو الأمس لأنه وجد نفسه في وضع الاختيار بين أخف الضررين. وألقي الكرة إلى ملعب بقية مكونات الساحة السياسية والاجتماعية. يقول لك النهضاوي إن الشريك السيئ والواضح الأهداف أقل ضررا من صديق مبتز يحسن المزايدة. وعندما يركب أمامك المشهد من جملة الوقائع التي غلبت على فترة حكمه (من إعلان نجيب الشابي تشكل المعارضة قبل تشكيل الحكومة مرورا بالاغتيالات وتحميلها للنهضة والشيرتون قيت وانقلاب صيف 2013) تفهم الموقف الذي بنى عليه عمله السياسي بعد انتخابات 2014 . أن يكون مضطرا الآن ليعمل وحده لتدبير وجوده وحمايته في السلطة وبها وبأقل من حجمه، أفضل له من الرهان على الذرات الحزبية الهائمة الموغلة في المزايدة.
يقول لك النهضاوي إن ما يسمى بمكونات الصف الوطني عملت ولا تزال على أن تأكل الثوم بفم النهضة فهي تريد من الحزب أن يجهز على النظام القديم، دون أن تشاركه في ذلك ولكنها تحضر لقطف النتيجة. فالنهضة طيبة مادامت رأس حربة ضد المنظومة القديمة لكنها يجب أن تقف عند ذلك فالحكم ليس لها. وهو خطاب استئصالي من نوع آخر. ولذلك فإن القرار النهضاوي يتضح أكثر: (نخسر نصف قوتنا بالمشاركة في الحكم مع حزب نعرف أصله الفاسد على أن نخسر وجودنا مع أحزاب النقاء الثوري التي لا تفلح في التجمع عمليا حول جامع وطني برامجي). ويزيد: (نعمل مع حزب قوي تخلى عن أجندته الاستئصالية على أن نتحول إلى مركوب لنخب فاشلة حتى في عقد اجتماع شعبي دون استجداء قواعد النهضة لملء الفراغ). وهو استعراض قوة مجحف ولكن عليه للأسف أدلة واقعية.
إن واقع المظلومية النهضاوي (خاصة إذا أضيفت إليه المظلومية المصرية كاحتمال مُهَدِّد) يمتلك الكثير من التأثير على الصف الداخلي. ويستمر في العمل كمبرر للعمل الفردي فقد تغيبت أغلب الوجوه السياسية التي تملأ الشاشات وتخجل من الظهور مع النهضة. وفي ظل وضع مماثل يختفي النقاش الشجاع حول الواقع والمستقبل بين فرقاء الوطن دون المنظومة القديمة وضدها. أعتقد أن المنظومة القديمة ستجد متسعا من الوقت لتنظم صفوفها وتستعيد دولتها وتحول الجميع إلى ذرات حزبية أصغر مهما اضطرب الشارع.
ينتهي النقاش مع النهضاوي إلى أنه من وجد في النهضة في لحظة من تاريخها حالة جبن عن المواجهة، فليتقدم بقوته ليقود فالسّاحة ليست ملكا خاصا للنهضة. وهي لعمري جملة مُحْبَطَة تكشف يأس من يعمل على إنقاذ ما يمكن إنقاذه لأن استصراخ النجدة ذهب في الفراغ.
الشعور الأخير الذي عدت به من الاحتفالية: سيكرّس عقد مؤتمر النهضة تحت روح المظلومية ودون برنامج اجتماعي واضح حالة التشظي السياسي في الساحة أمام المنظومة القديمة. سيوغل
حزب النهضة في الدفاع عن وجوده بالوسائل المتاحة وسيرتاح الآخرون في نعته بالخيانة والتطهر الثوري على حسابه. وسيؤدي تطهرهم منه وتظلمه منهم إلى ترك الشارع يتيما يعوي في الصحراء بلا مأوى تطارده ذئاب الفساد والاستبداد.