بدأت
فرنسا تستعيد بعض البريق والمبادرة، منذ أفسحت
السياسة الأمريكية المثقلة بالأعباء التي جرتها عليها سياسة بوش الابن والمحافظين الجدد، ممرات أوسع إلى مصالح الدولة الفرنسية، المدفوعة بالعامل الاقتصادي، وهي التي كانت ممهلة بمدة محدودة، هي عامان، من الاتحاد الأوروبي، لتخفض العجز العام، ليتفق مع المعايير الأوروبية والمدفوعة كذلك بإرثها العالمي، وتلبية لشعور بالعظمة الفرنسية لا يضمحل.
ولذلك اندفعت فرنسا إلى مالي، ليس فقط، لحماية سلامة الدولة هناك، ولوقف زحف الجماعات المرتبطة بالقاعدة، وغيرها، إلى العاصمة باماكو، والمساعدة في إنقاذ الرهائن الفرنسيين، كما كانت تعلن الخارجية الفرنسية، بل لدوافع أعمق، تمتد إلى حماية باريس لمصالحها القومية الحيوية في إفريقيا، ولا سيما في الساحل الإفريقي، حيث نفوذها القديم، ومصالحها الحيوية.
ولأن لمنطقة شمال مالي أهمية إستراتيجية تتجلى في الثروات الطبيعية، وخصوصا الغاز والثروة المعدنية، وكذلك لكون فرنسا تنتج ما يقدر بنحو 20% من كهربائها من الطاقة النووية التي تعتمد على اليورانيوم المستورد من مصادر من منطقة الساحل، وخصوصا من مناجم النيجر، جارة مالي من الجهة الشمالية الشرقية.
وبعد الهجوم على "شارلي إيبدو" اعتبر الرئيس الفرنسي، فرانسوا هولاند، في كلمة ألقاها في حفل وداع عسكريين فرنسيين كانوا متجهين إلى الخليج العربي على متن حاملة الطائرات "شارل ديغول": أن إرسال حاملة الطائرات"شارل ديغول إلى منطقة الخليج العربي هو رد الحكومة الفرنسية على الإرهابيين في حربنا المعلنة ضد الإرهاب، كما أنه يسمح لنا بامتلاك النفوذ في الساحة الدولية".
هذا لا يعني أن الدوافع الاقتصادية هي الوحيدة، وأن فرنسا لا تستشعر خطرا جديا من التغيرات النوعية نحو التطرف والإرهاب الذي ظهر أنه لا يتوقف عند حدود الشرق الأوسط النازف، بل إن المسافات تتقاصر أمامه، ليصل، ويضرب في عمق فرنسا، وأوروبا.
وفي المفاوضات الجارية مع إيران حول مشروعها النووي تظهر فرنسا تشددا لافتا لتوقيع اتفاق نووي نهائي مع إيراني مقابل الموقف الأمريكي، فباراك أوباما يبدو أكثر حرصا على إبرام الاتفاق، وتذليل عقباته، فيما باريس تميل أكثر إلى دول الخليج، وتبدي اهتماما برعاية أمنها أن يمس، بعد هذا الاتفاق.
فيما مسؤولون أمريكيون يقولون إن الموقف الفرنسي في الجلسات السرية المغلقة أو غيرها، ليس بهذه الشدة التي يبدو عليها في العلن، في محاولة من واشنطن لتخفيف الآمال المعلقة على باريس خليجيا، أو لكشف الموقف الفرنسي الذي يستثمر بصفقات سلاح، وفي تقوية علاقات فرنسا بدول الخليج، أو بمحاولة ملء أي فرصة تنشأ، نتيجة سعي دول الخليج إلى حشد مزيد من القوة الدولية في وجه التحولات التي قد تساعد إيران، والموقف الأمريكي الذي قد يسمح بذلك.
ولأن أمريكا، بإدارة أوباما (رئيس الواقعية السياسية، والبراغماتية) معنية بالاتفاق، كأولوية، فإنها تبدي تفهما للسيادة الإيرانية، أو لكبرياء إيران، فيما لا تبدو باريس آبهة، وهي العريقة في الكبرياء والعظمة، بكبرياء إيران، ويرد وزير الخارجية الإيراني، جواد ظريف بأن "إيران بتاريخها الممتد لن تخضع للترهيب".
ولعل أوضح تميز للموقف الفرنسي يظهر في تحذير فرنسا من أنها مستعدة لعرقلة اتفاق نهائي بين إيران والقوى العالمية الست، بشأن البرنامج النووي الإيراني، ما لم تسمح طهران للمفتشين بالدخول إلى كل المنشآت، بما فيها المواقع العسكرية.
وبالطبع تعلن إيران رفضها لهذا الاشتراط، ويتداول إعلاميا أن فرنسا تتبنى الموقف الأكثر تشددا بين دول مجموعة 5+1، وأنها تخشى من أن تفرط الولايات المتحدة في تقديم التنازلات، من أجل توقيع اتفاق تاريخي.
ولا تقتصر هذه الاستقلالية الفرنسية الخارجية على الملف النووي الإيراني والعلاقات الخليجية، إذ تمتد لتصل إلى ما لعله المِفتاح أو المدخل الضروري إلى المنطقة، وهي القضية الفلسطينية، إذ تسعى فرنسا إلى تنشيط دورها الشرق أوسطي، تعزيزا لتعانق السياسي والاقتصادي، حيث أعلن وزير الخارجية، الفرنسي لوران فابيوس، أنه سيتوجه قبل نهاية حزيران/ يونيو إلى مصر، والأراضي الفلسطينية وإسرائيل لعرض مقترحات فرنسية، من أجل إعادة إطلاق مفاوضات السلام.
وهنا تعيد باريس حضورها- أو تحاول- في فلسطين التي أضحت (رمزية)، للعرب والمسلمين، أو في "عملية السلام"، فتحاول استئنافها، وذلك بغض النظر، أو دون انتظار، أن تسفر تلك الجهود، والمقترحات عن نتائج فعلية....لكن بالتميز، أو بتقدم الموقف الفرنسي على الموقف، والمقاربة الأمريكية للصراع في فلسطين، مستفيدة من الفراغ الناشىء عن فشل المساعي الأمريكية الحثيثة التي انتهت فيما يشبه الإعلان الصريح عن ذاك الفشل، على لسان أوباما الذي أعلن، مؤخرا، أن حل الدولتين بات أبعد وأصعب.
هذا التقدم الفرنسي النظري ماثل في كون الموقف الفرنسي لا يقتصر على تأييد حل الدولتين، والتأكيد على أن الفلسطينيين يجب أن يحظوا بالعدل والأمن، وليس الإسرائيليين فقط، بل يتعدى الفرنسيون ذلك إلى السعي نحو التصويت في الأمم المتحدة على مشروع قرار ينص على استئناف المفاوضات المتوقفة بين الجانبين الإسرائيلي والفلسطيني، وعلى تحديد جدول زمني للمفاوضات التي يفترض أن تفضي إلى قيام دولة فلسطينية.
ومن غير المرجح أن تنجح السياسة الفرنسية في إحداث تأثيرات إستراتيجية، في الملف النووي الإيراني، أو في عملية السلام التي تعزز دورها العالمي والإقليمي، وتظهرها بمظهر المساند، أو غير المُتنكِّر للحقوق الفلسطينية والعربية، ذلك أن الأوراق والإرادة التي تتوافر للإدارة الأمريكية أكبر وأكثر فاعلية، مما تملك فرنسا، ولكن باريس تطمح في ملء أي فراغ ينشأ، وفي أثناء ذلك، تعمد إلى تعزيز علاقاتها الاقتصادية مع دول الخليج.
وبموازاة ذلك قد تتحين باريس الرغبة الأمريكية أو الإيرانية، أو الاثنتين المتوافقتين معا، لمساومات أبرزها اقتصادية، لكف معارضتها، أو لتليين مواقفها، تجاه الاتفاق النووي النهائي المفترض في نهاية حزيران/يونيو الجاري.