ربما يغرق الكثيرون في عقيدة "
المؤامرة" حول ما يحدث في المنطقة وتحميله لمخططات التقسيم المعلنة سابقا مما يوحي بأن كل التفاعلات السياسية والعسكرية في المنطقة هي من النوع المتحكم فيه والمسيطر عليه من قبل مراكز النفوذ والسيطرة الغربية والشرقية، وأن أغلب التنظيمات العسكرية والدينية تدار من قبل أجهزة استخبارات عالمية لتحقيق مآرب خاصة بدول المركز، وهذا التفسير يريح العقل من محاولات تفكيك المشهد ومعرفة الأسباب والمآلات، فالأمر محسوم سلفا: مؤامرة صهيو-أمريكية لإسقاط الدول العربية أو إسقاط المشروع الإسلامي على جانب آخر من المؤامرة.
إلا أن هذا الارتياح للتفسير التآمري والجمع الاعتباطي للمشاريع في صورة المؤامرة، سواء تلك التي تجمع إيران بجانب الصهيونية بجانب أمريكا بجانب روسيا في مشروع واحد أم تلك التي تلصق مشاريع سنية جهادية بالاختراق الإيراني من باب "ابحث عن المستفيد"؛ فيصبح البغدادي الذي يذبح الشيعة ويفجرهم يوميا عميلا للاستخبارات "الإيرانية" وتصبح الحرب الإيرانية عليه مجرد "تمثيلية" لإقناعنا نحن الجالسين في صفوف المتفرجين بأنها لعبة حقيقية.. كذلك تصبح حماس في رواية قطاع من العرب مؤامرة صهيونية على القضية الفلسطينية وأن هذه الحروب المتعاقبة ماهي إلا لإفشال مشروع التحرر الوطني الفلسطيني بالاتفاق ما بين حماس وإسرائيل.
وتستمر تلك الروايات لتأتي كل واحدة بصيغة أعجب من سابقتها على اختلاف توجه كل طرف لتصبح "الشيطنة" المطلقة عنوان المرحلة، والوصفة يسيرة ومبسطة جدا.. فقط أجمع كل من تراهم شياطين في سلة واحدة، وحاول دوما أن تنفي أي عداء بينهم وإن حدث اشتباك فقل إنه مسرحية هزلية للتلاعب بنا، فيصبح بذلك الداعشي إيرانيا والإيراني يهوديا والحمساوي صهيونيا والسيناوي مخابراتيا والإخواني أمريكانيا.. وهكذا تخلط الأوراق ثم ارفض لاحقا أي مناقشة منطقية لهذه الظواهر، فافتراض "المؤامرة" المطلقة يقتضي دوما أن الأمور دوما هي بخلاف ظواهرها على طول الخط.
لست في هذا المقام عدوا مطلقا لفكرة المؤامرة بل نصير معتدل لها، ففي النهاية لا توجد سياسة في العالم لا تعرف الاتفاق الضمني والاحتيال المفضي إلى التآمر حتما!! إلا أن هذا التآمر يجب أن يظل في إطار التفسير المفهوم المُسبب المنطقي الذي يبحث في جذور الصراعات ومآلاتها فيقنعنا أن احتمالية الاتفاق بين طرفين بعينهما أمر ممكن للأسباب المنطقية، وأن مصلحة طرف آخر هي في إتاحة المجال لخصمه للظهور تمهيدا لضربه أو أو.. لكن أن نغرق في التفسير اللاعقلاني بشكل يدمر أي أساس لتحليل وفهم الصراع الحالي، فهذا سيجعلنا دوما في خانة التيبس والعجز.
صحيح أنه تم طرح أكثر من مخطط لتقسيم المنطقة، لكن هذا الطرح كان في إطار الدراسة الموضوعية لأزمة الهويات في المنطقة ومستقبل الدولة
الوطنية العربية التي فشلت في إيجاد هوية وطنية جامعة في إطار صراعها الداخلي مع تيارات الإسلام السياسي والجهادي وصعود المشاريع السياسية المذهبية، ولهذا بحث الغرب كيفية الانتقال المحقق لمصلحته من نموذج الدولة الوطنية إلى نماذج تحافظ على توازن عرقي وهوياتي ومذهبي محدد يمكن من خلال العبور من مرحة "الفوضى" الهوياتية إلى مرحلة الأشكال الثابتة المستقرة، كما راعى الغرب أن يترك حتى لأعدائه مساحات يقيمون عليها مشاريعهم السياسية ولكن في بيئة عدائية من محيطها مما يمنع تمددها، كل هذه تصورات ومخططات لم تنشأ في العدم بل نشأت نتيجة "التوقعات" لما سيؤول إليه الواقع في النهاية.
ولأننا نفقتد أي سياق منهجي للدراسات المستقبلية ونعتبر أن أي تناول للمستقبل وشكله هو اختصاص "ديني" بحت، وأن محاولة التحكم به أو استباقه أو التنبؤ به هي مسألة غيبية أو خارقة، أصبحنا نتناول المعطيات الغربية التقليدية بشكل "أسطوري" ونضفي عليها هالات من القداسة ما يمنحها درجة النفاذ الحتمي والتحقق اللازم؛ لا لكونها عقلانية أو مبنية على دراسة واقع جيدة، إنما لكونها "غيبية" مرتبطة بخارق قوي متآمر. وبهذا يفوت علينا توظيف دراسات الغرب لصالحنا، ونقع في فخ الإدانة المستمرة لأي مظهر من مظاهر ما نعتبره "المؤامرة"، في حين أننا نفوت الكثير في حالة التوقف هذه ونخسر على الحقيقة توظيف ما هو واقع ومتوقع لصالح مشروعنا بدلا من مشروعهم.
ربما يتفق شخصان في نفس المعطيات والمقدمات ويفضيان إلى نتائج مختلفة تحددها انحيازات كل منهما، وليس معنى أن تتفق أنت وشخص ما على حتمية انهيار الشكل الحالي للمنطقة أنكما على نفس الخط، بل ربما تكونان ألد الخصوم لكنكما في النهاية متفقون أن الكرة أمامكما وأن من سيستحوذ عليها أولا ربما يفسد على الآخر مخططه.