أستعين كثيرا برواية سليم بركات الأولى الفذّة "فقهاء الظلام" في فهم الشخصية الكردية وفهم نفسي أيضا. قبل أيام دارت معركة سياسية وثقافية في
رابطة الكتاب السوريين بين زميلين. وأحب أن أستشهد بواقعتين جرتا لي مع بعض فقهاء الظلام الأحبة على صفحات مدائن الملح. الأولى: طلب مني صديق كردي باسل أن أنزح من صفحته الأولى التي سيفردها للكرد خالصة لا تشوبها شائبة ولا عاربة، إلى الصفحة الثانية التي بناها حديثا للأصدقاء العرب، فقلت في سري، والتهم تتوارد على الكرد بالتطهير العرقي ضد العرب: يعني "كاك" ستقوم بتطهير عرقي؟ إلا أنّني آثرت ذهب السكوت على فضة الكلام، فطلبت من الكاك أن يجرفني بجرافاته التطهيرية إلى صفحته الثانية، مع أنّي أحب العيش في مدن عالمية تتجاور فيها الثقافات والأديان والشعوب.. فضلت الاستجابة لطلبه بالفصل العنصري، قابلا بسايكس بيكو أو "الآبارتيد" التي أقامها، فقد أموت من الجوع والعزلة إن طردني من صفحات المن والسلوى! وقبلت بالانتقال إلى المنطقة الحمراء.. فلله في خلقه شؤون! هناك أصدقاء كثر، بعضهم مجانين، وبعضهم متطرفون، وأكثرهم صالحون، وهذا حال الدنيا... ثم تكررت الواقعة مع كاك- يعني أخ- ثان، كان أشد بأسا من الأول، فقام بحذف العرب والكرد الذين يكتبون بالعربية أمثالي، قاطبة. لا حياة في هذا القطر، القطار، الفيس بوط "المكنتن"، إلا للكرد والاشتراكية. تذكرت "جهور" في رواية "فقهاء الظلام" أخا عفدي ساري، الذي يتحول غارقا في رغبة بالانتقام إلى بنّاء سدود في الحارة الغربية، وهاهم أصحابنا يبغون تقسيم العالم إلى فساطين، تنويريين كرد ودواعش عرب.
ثمة وقائع تحشيد عرقي وقومي بين الكردي والعربي، لكنها بين الكردي والكردي أشد وأنكى.. لم يعرّف الكرد بعد الهوية الكردية، كما فعل اليهود مثلا، فدم اليهودي على اليهودي حرام، وحالة قتل إسحاق رابين حالة استثنائية. يقال إنّ الحجل هو طائر الكرد القومي مثلما هو الكنغر حيوان الأستراليين القومي، والديك طائر الفرنسيين القومي، والحجل طائر معروف بالكيد لبني ريشه!
يقال إن الكرد في حالة صعود قومي بالصاروخ (نتذكر بيكس في رواية فقهاء الظلام)، ومصابون "بمتلازمة كوباني"، المحررة، والمدمرة على أيدي التحالف، وعدوها
داعش.. وتبلغ نسبة الدمار تسعين بالمائة، إلا أنّ الكرد على صفحتي، سوى واحد فقط، هو من أبنائها، مسرورون بالتحرير، والمعارك مستمرة، فقد بات اسمها "كوباني غراد"، رغم أنّها مهددة بغزو داعش مرة ثانية وثالثة.. وهي إلى ذلك باتت بلدة عالمية الصدى بحكم التغطية الإعلامية الواسعة التي لم تحظ بها مدن سورية أبدت بسالة وتضحية، فلعلها مدن داعشية؟ أو أنّ العالم وكاميرته عوراء، فهو يرى القشة في عين، ويعشى عن رؤية الخوازيق والبراميل والسكود في عيون أخرى.. كواحل. أصدقائي الكرد في مدائن الملح على صفحات الفيس بوك يقسمون العالم إلى فسطاطين: أكراد تنويريين متفوقين عرقيا، وعرب دواعش حتما مقضيا.
ياسين الحاج صالح داعشي! ورابطة الكتاب السوريين دواعش وبعثيون! هكذا قالت تعليقات المنسحبين من رابطة الكتاب تضامنا مع زميلهم الذي جمدت عضويته بعد شكوى من ابن قومه، وليس من زميل عربي داعشي، وهو مثله يكتب بالعربية والكردية ولعله من التيار السياسي نفسه أو كان منه !
تتالت التعليقات المتضامنة مع الزميل المدعى عليه الذي جمدت عضويته بسبب تسريب وقائع جلسة قبل تخويله إعلانها وهتفت بأنّ: الرابطة هي رابطة علي عقلة عرسان! مع أنّي عضو في الرابطة لكني لا أعرف اسم رئيس رابطتي حتى الآن! فهي تنتخب مكتبها التنفيذي بشكل دوري، والمدعى عليه عضو مكتب تنفيذي منتخب، مثله مثل أكراد (أو سوريين) آخرين، وفي هيئة تحرير مجلة أوراق التي تصدر عن الرابطة بصعوبات مالية، وجهود هيئتها وتحريرها التطوعية ثلاثة كتاب سوريين كرد، وهي تخصص ملفات كردية، حسب بريد المجلة ومساهمات الكتاب. وهيئة تحريرها برمتها منفيون، وعلمانيون، باستثنائي فأنا علماني بدوام جزئي، ونهاية الأسبوع فقط. ومع هذا يخشى أحد أعضاء المكتب التنفيذي أن يصير اسم المجلة لدى فقهاء الظلام الأحبة: "رابطة الكتاب في العراق والشام"، أو ربما "أوراق دابق"!
مختصر الحكاية أنّ: "مجموعة من الكتّاب والصحافيين والمثقفين السوريين، أصدرت يوم 27/ 6/ 2015 بيانا للرأي العام بعنوان: "
سوريا للجميع وفوق الجميع: بيانا للوحدة الوطنيّة الكرديّة- العربيّة" وقّع عليها المئات من المواطنين السوريين. ومن ضمن ما دعا إليها الموقّعون: "ندعو أبناء شعبنا السوري، وخاصّة النخب الثقافيّة والسياسيّة، إلى الابتعاد عن التورط في هذه الفتنة، وفضح الضالعين فيها والمروّجين لها، والعمل على تنقية الأجواء، والتشديد على نقاط التلاقي المشتركة، وتحييد العرب والكرد عن هذه الصراعات الغرائزية.. وتؤكد المضي: قدما نحو سورية، ديمقراطيّة، تعدديّة، مدنيّة، لكل أبنائها، وبكل أبنائها".
المدعى عليه وصف البيان وموقعيه –باللغة الكردية- بأوصاف اعتبرها زميله المدعي غير لائقة ومهينة وتخوينية، واشتكى رسميا إلى رابطة الكتاب داعيا لإنصافه، وأرسل روابط ووثائق وأدلة تثبت دعواه، وانضم إليه زملاء كتاب أخرون كرد وعرب، فلم تجد الرابطة ممثلة بمكتبها التنفيذي مفرا من النأي بالنفس على طريقة اللبنانيين في التعاطي مع الثورة السورية، فالزميل المدعي يذكرهم بالقانون الأساسي لرابطة الكتاب السوريين والرابطة، بوصفها إطارا يوحد جهود الكتاب المنظمين إليها، تلتزم بالدفاع عن حقوقهم الاعتبارية والمادية.
الشكوى وأدلتها واضحة، والعدل واجب.. ويمكن للقارئ الرجوع إلى موقع الرابطة، ولا يبدو أنّ المدعي يريد التنازل أو المصالحة، فأصدر المكتب التنفيذي بيانا في موقعه الرابطة، يؤكد في على حرية الرأي، وطلب شفويا من زميلهم المدعى عليه الذي يقدرون جهوده، وزمالته، الاعتذار من المدعي، و"من المجني عليهم"، الموقعين على البيان الوطني المذكور، فأرسل اعتذارا، بدا لهم أنّ الاستكبار فيه أوضح من الاعتذار. وكان يمكن للأمر أن يتوقف هنا، وربما ينتج عنه انسحاب المدعي أو زملائه المدعين من الرابطة، لولا أنّ أمرا وقع، فقد كان المدعى عليه مشاركا في نقاشات المكتب التنفيذي، ويدافع عن نفسه بغياب الجهة المدعية، وسرّب وقائع مناقشات الرابطة، وبيانها الأول، قبل إصداره رسميا، معتبرا إياه نصرا له، إلى جهات صحفية كردية وحزبية، مما أغضب الزملاء في المكتب التنفيذي، فقرروا تجميد عضوية زميلهم الناشط القدير الذي استعجل البيان وسرّبه قبل إقراره كتابيا، مستغلا مكانه ومكانته؛ لحين استكمال التحقيق.
ما حدث لاحقا أنّ المدّعى عليه صدّر التجميد وتبناه على صفحته بدهاء ومكر:"من غير تعليق"، فتحوّل إلى حائط مبكى وسباب، كما ينتظر. وتتالت الشتائم وبرقيات العزاء والمواساة و التهنئة والفخار القومي وشتم العرب الدواعش البعثيين "حتما مقضيا"، الذين يظلمون الكرد في الوطن والمنافي. ثم ثنّى عليها بواقعة جرت له مع اتحاد علي عقلة عرسان موحيا بالمساواة بين الواقعتين وبين الجهتين: الاتحاد والرابطة، و أنّ العرب لا يتغيرون: مثقفين كانوا أو أميين. وهم بعثيون منذ بدء الخليقة. فآدم العرب، وهو غير آدم الكرد، كان بعثيا. واستقال تضامنا معه،أربعة عشر كاتبا سوريا (كرديا). نذكر للمرة الثانية أنّ المعركة بدأت بشكوى من كاتب كردي ضد كاتب كردي، كلاهما يكتبان باللغتين لغة الحجل، ولغة داعش.
يقول غوستاف لوبون في كتابه الأثير: سيكولوجية الجماهير (أنّ الملاحظات الجماعية هي الأكثر بعدا عن الصواب، وأقرب للهلوسات، وهي تتشكل لدى فرد واحد، هو هنا غابرييل غارسيا ماركيز كردستان،كما يصفه محبوه. ثم تنتقل عن طريق العدوى إلى الآخرين. ويشير إلى أنّ التطهر العرقي هو أهم عقائد الإيديولوجيات. وأنّ سرعة تأثر الجماهير مبهرة، وهي هنا جماهير فيس بوك. وسذاجتها لا تصدق، فهي تصدق أي شيء، وكل شيء يعتمد على طبيعة المحرض، وليس على العلاقات بين العامل المحرض عليه وحجم السبب، الذي يعاكس الحقيقة، كما هو حال الفرد المعزول). أبطال رواية بركات فقهاء الظلام معزولون، لا يستطيعون مجاراة الزمن فهم أمّا خلفه أو أمامه. كل شخصيات الرواية تحب العزلة والسدود والأماكن الضيقة.
يؤكد لوبون أيضا: (أنّ الجماهير محرومة من الروح النقدية، فعندهم تشيع الأساطير الأكثر غرابة وشذوذا، وهو ليس ناجما عن سرعة التصديق،وإنما عن تشويه هائل للأحداث في مخيلة الأفراد المحتشدين، فعواطف الجماهير مضخمة جدا، وعنف عواطف الجماهير يزداد مبالغة بسبب انعدام المسؤولية. في الجمهور يتحرر الأبله والجاهل والحسود من الإحساس بدونيتهم،وعدم كفاءتهم وعجزهم.. يتابع لوبون: وللأسف حس المبالغة والتضخم لدى الجماهير يتركز غالبا على العواطف الشريرة. ويؤكد أنّ الإنسان يشبه الحيوانات فيما يخص ظاهرة التقليد، ويدلل بأدلة وإحصاءات أنّ المتعلمين والمثقفين،أكثر استجابة للتحشيد وثقافة القطيع من الأميين الطيبين!
شبه المدعى عليه اتحاد كتاب العرب برابطة الكتاب السوريين! لا يوجد أدنى شبه بين الرابطة المنفية التي تكتب وتصدر مجلتها بتبرعات وجهود أعضائها وأصدقائهم ويتواصل أعضاؤها بالسكايب مع بعضهم وبالتخاطر الوجداني، وبين اتحاد عرسان وجمعة البعثي الرسمي. خذ هذا المثال رجل يمشي في وسط الطريق فتصدمه سيارة ورجل واقف على الرصيف فتصدمه سيارة سائقها سكران، كلاهما حادث سير! والآن السؤال ما هو وجه الشبه بين الفيل والنملة؟ الجواب: الفيل من الدواعش والنملة من المواطنين الشرفاء. ولا أعتقد أنّ أحدا من المنسحبين الأفاضل سيعود عن قرار الانسحاب والاستقالة من الرابطة "الداعشية". إذا بقوا مستقيلين أفاضل، أو عادوا إلى الرابطة كرماء، سأقول في الحالتين العبارة الفيسبوكية الشهيرة: لا تخرج قبل أن تقول "سبحان الله".