ملفات وتقارير

جيري آدامز يتحدث عن الصراع الإيرلندي البريطاني وفلسطين

رئيس حزب "الشين فين" الإيرلندي جيري آدامز - أرشيفية
أجرت الصحفية في موقع "ميدل إيست مونيتور" (ميمو) البريطاني، أميليا سميث، لقاء موسعا مع رئيس حزب "الشين فين" الإيرلندي، جيري آدامز، استعرض فيه رؤيته وذكرياته عن مرحلة الصراع الطويل بين الجمهوريين الإيرلنديين وبريطانيا.

ويتذكر جيري آدامز خلال المقابلة أنه على مدى الصراع الطويل مع بريطانيا في إيرلندا الشمالية كانت وسائل الإعلام البريطانية تصف أعضاء الجيش الجمهوري الإيرلندي (آي آر إيه) بأنهم "مافيا"، وبأنهم "سماسرة". 

ويقول إن ذلك كان جزءا من حملة دعائية مغرضة هدفها تشويه صورة النضال الجمهوري في سبيل الحرية، وتقويضه وإحباطه تماما، كما كانت تفعل بريطانيا في حروبها الاستعمارية عندما كانت تنعت من يناضلون ضدها بأنهم "إرهابيون" و"مسلحون" و"متطرفون" و"متشددون".

ويضيف آدامز أن المنطق البريطاني في ذلك كان بسيطا ومباشرا، فلكي تهزم عدوا ما، خاصة في خضم حرب عصابات تخاض ضدك، فإنه يتوجب عليك أن تقوض القاعدة الشعبية التي يعتمد عليها العدو، ويستمد منها الدعم، وذلك من خلال ضرب إسفين ما بين المناضلين من أجل الحرية وعامة الناس، الذين يزودونهم بالمتطوعين وبالموارد المادية التي يحتاجونها، من أجل الاستمرار في نضالهم. 

ويقول: "فإذا تمكنت من إقناع هؤلاء المواطنين الذين يدعمون عدوك بأن هؤلاء الأعداء ليسوا مناضلين من أجل الحرية والاستقلال، فإنك تأمل بذلك في أن تكون قد اقتربت أكثر فأكثر من الهدف المنشود، ألا وهو كسب المعركة".

ويقول إنه حينما ينجح "الإرهابيون" فإنهم يصبحون ساسة ورجال دولة. وهذا بالضبط ما حصل مع جيري آدامز نفسه، حيث تحول من "زعيم مافيا" إلى عضو في البرلمان البريطاني عن دائرة لاوث وإيست ميث. 

وخلال فترة التحول تلك، بقي آدمز رئيسا لحزب "الشين فين" الجمهوري الإيرلندي صاحب العلاقة الوثيقة مع منظمة "آي آر إيه"، وذلك رغم أن آدمز ينفي أنه كان في يوم من الأيام عضوا فيها. 

في أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات من القرن الماضي، فرضت رئيسة الوزراء البريطانية، مارغريت تاتشر، حظرا يمنع وسائل الإعلام من بث أصوات الأشخاص الممثلين لحزب "الشين فين". أما الآن، فقد بات بإمكانهم التربع على مقاعدهم داخل برلمان ويستمنستر، وإن كانوا يفضلون مقاطعة جلسات البرلمان. 

وعبرت عن ذلك السياسية في حزب "الشين فين"، ميشيل غيلدرنيو، في مقابلة مع صحيفة "الغارديان" في شهر أيار/ مايو الماضي، حيث قالت: "نجد من الأجدى صرف أوقاتنا في خدمة ناخبينا داخل دوائرنا".
 
كانت اتفاقية "الجمعة العظيمة" التي وقعت في العاشر من نيسان/ إبريل 1998 هي العامل الأكبر في إخراج حزب الشين فين من العزلة التي كانت مفروضة عليه. فقد نصت الاتفاقية على تسوية دائمة ونهائية للصراع الذي استمر لثلاثين عاما، وكان من نتائجها أن ينسب الفضل إلى آدمز، الذي كان أحد مصممي الاتفاقية، في توجيه الآي آر إيه بعيدا عن النضال المسلح باتجاه المقاومة السياسية. 

يقول آدمز: "الفرق الأساسي والكبير بين هذه الاتفاقية وكل ما سبقها من تسويات هو أن الجمعة العظيمة تؤكد في الصميم منها على قضية التسوية".

ويقر آدمز، في مقابلته مع "ميمو"، بأن الاتفاقية ليست مثالية، فهي في نهاية المطاف تسوية بين مواقف سياسية متضاربة جاءت بعد عقود من العنف وأجيال من الانقسام. وكان أصعب ما في الاتفاقية، بالطبع، هو تنفيذ بنودها. 

وكم من الالتواءات والمنعطفات شهدها تطبيق الاتفاقية منذ العاشر من نيسان/ إبريل 1998 وحتى الآن، لدرجة أن العملية كادت في بعض الأوقات أن تنهار تماما، على حد قوله، وبدا في بعض الأوقات كما لو أن الجهات التي تستهدف تقويضها وتخريبها على وشك النجاح، وأن عملية السلام بأسرها أضحت في مهب الريح، بحسب ما يقول آدمز. 

ويضيف أنه أمكن من خلال الكثير من الصبر والمصابرة تحقيق هذه الاتفاقية في أرض الواقع بعد مرور سبعة عشر عاما على إبرامها، وأصبح لدينا الآن ترتيبات شراكة في السلطة ومؤسسات سياسية فاعلة وناجعة، على حد قوله.

مع أن الاتفاقية ليست بلا شوائب، إلا أن الكثيرين يعتبرونها نموذجا ناجحا لحل النزاعات، وكثيرا ما تتوافد اللجان والوفود الدولية على بيلفاست لزيارة برلمان شمال إيرلندا، بينما تقوم وفود مشتركة من الاتحاديين والجمهوريين بزيارة مناطق الصراع حول العالم ليقدموا للآخرين خلاصة تجاربهم، ومن المناطق التي يزورونها من حين لآخر فلسطين.

وتماما، كما أن الشين فين استلهم العبر والدروس من الثورتين الأمريكية والفرنسية في القرن الثامن عشر، وتلقى الدعم والمساندة من المؤتمر الوطني الأفريقي في جنوب أفريقيا، فقد توجهت فلسطين بأنظارها إلى مسيرة النضال في شمال إيرلندا، سعيا لاستلهام العبر والدروس من تلك التجربة، ومعرفة أوجه الشبه والاختلاف بين التجربتين، خاصة أن كليهما خضعا للاستعمار البريطاني، ولحملات الدعاية المغرضة المشوهة لنضالهما، وكذلك للتمييز والتجزئة والعزل والحصار. 

يقول آدمز: "مع أنه لا يوجد صراعان في الدنيا يتطابقان في مواصفاتهما إلا أن عملية السلام الإيرلندية أضفت تحولا كبيرا على الأوضاع السياسية في إيرلندا، ومن الممكن جدا الاستفادة من المبادئ العامة التي كانت ناجعة في حالتنا وتطبيقها في حالة الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي".

اتفاقية أوسلو

ولكن على النقيض من اتفاقية الجمعة العظيمة، يرى كثير من الفلسطينيين معاهدة السلام بين إسرائيل وفلسطين، بموجب اتفاقات أوسلو، مشروعا فاشلا تماما. 

ويعلق آدمز على ذلك: "ليس لدي اطلاع على تفاصيل اتفاقية أوسلو، ولكن من الواضح أن التعهدات التي أعطيت للمفاوضين الفلسطينيين لم يتم الوفاء بها. ولا أدل على ذلك من الزيادة الهائلة في حجم الاستيطان غير الشرعي في القدس والضفة الغربية، وكذلك الحصار غير القانوني المفروض على قطاع غزة، إضافة إلى المعاناة الضخمة التي يتكبدها سكان القطاع المدنيين، بسبب العدوان العسكري المتكرر عليهم، وكل ذلك يرتكبه الإسرائيليون في مأمن من المساءلة والمحاسبة الدولية".

يقول زعماء الشين فين إن خطا من التواصل ظل قائما بينهم وبين الحكومة البريطانية لما يقرب من عشرين عاما، وذلك رغم أن الوزراء البريطانيين كانوا يصرحون علانية بأنهم ما كانوا ليتفاوضوا مع الجمهوريين الإيرلنديين. 

واستمر الحال على ذلك حتى منتصف التسعينيات، وعندها فقط بدأ الطرفان جولات علنية من الحوار. وسواء كان الحوار خلف أبواب مغلقة أم في العلن، فقد كان التفاوض مع الحكومة البريطانية صعبا بلا شك. 

إلا أن آدمز يصرح بأن التفاوض الأصعب كان يدور داخل المعسكر الذي ينتمي إليه. 

يقول آدمز: "وجدت شخصيا أن أصعب التفاوض هو التفاوض مع الجانب الذي تنتمي إليه نفسك. فليس بالأمر الهين على الإطلاق أن تقنع رفاقك وأنصارك الذين طالما كانوا ضحايا للاضطهاد والظلم بأن يمضوا في طريق مغاير تسعى من خلاله -كما كان يقول نيلسون مانديلا- إلى تحويل أعدائك إلى أصدقاء. فههنا يكمن التحدي الحقيقي. ويزداد الأمر صعوبة حينما يتعامل من تتفاوض معهم مع العملية كما لو أنها كانت وسيلة لإلحاق الهزيمة بك". 

وقال آدمز: "لا شك بأن المفاوضات التي تجري في أجواء من سوء الظن وانعدام النزاهة من شأنها فقط أن تطيل أمد الصراع. ولذلك فإن الحوار جزء أساسي من تلك العملية، ولذلك فإنه يتوجب على الحكومة البريطانية أن تفتح قنوات للتواصل مع حركة حماس".

جدار الفصل

تخترق مدن إيرلندا الشمالية الكبيرة خطوطا متعرجة ومتلوية من "جدران السلام" أو ما يمكن اعتباره مؤشرات مادية تذكر بأن البلد لم يتجاوز بعد كل مشاكله. تفصل هذه الجدران التي تتزايد عددا وحجما منذ 1998 الأحياء التي يقطنها القوميون الإيرلنديون عن تلك التي يقطنها الوحدويون الموالون لبريطانيا. ومثل ذلك، يزداد جدار الفصل في فلسطين نموا، الذي يعدّ بناؤه –كما يقول آدمز– متعلقا بالأرض، كما أنه حيلة تستغل لسرقة المياه وبناء المزيد من المستوطنات غير القانونية. 

ويضيف: "إنها ثلمة في جبين إسرائيل والمجتمع الدولي".

تعدّ الجدران في العادة وسيلة للحماية، ولكن ذلك يختلف في أجواء الخوف حيث يصبح إقناع المواطنين بإزالتها أمرا في غاية الصعوبة، كما يقول آدمز. 

إلا أن الجدران الفاصلة بين المجاميع السكانية ليس بإمكانها تحقيق السلام، وبشكل خاص السلام الدائم بين من تفصل بينهم من البشر. 

ويضيف: "في نهاية المطاف، من شأن الجدران أو السياجات فقط أن تعزز من حالة العزلة والانفصال بين المواطنين، كما أنها تقلص إلى أدنى مستوى إمكانية إزالة الحواجز الفاصلة بين المجتمعات، وإمكانية بناء علاقات إنسانية وإمكانية تقليص الشعور بالخوف الذي يسود في أجواء النزاعات. والأسوأ من ذلك كله تلك الجدران التي تستخدم للاستيلاء على الأراضي والسيطرة عليها وإقصاء المواطنين". 

وقال: "لقد تحول المجتمع في إيرلندا الشمالية بسبب الاستعمار إلى ما يشبه الغيتوات (الأحياء المغلقة) لقرون متعاقبة. وليس ثمة أوضح من ذلك ما هو في المناطق الحضرية. وبنفس القدر، يعتبر جدار الفصل، وكذلك الطرق العقيمة التي يحظر على الفلسطينيين استخدامها، مظاهر لنظام من الفصل العنصري (الأبارتيد) تم إنشاؤه بشكل متعمد ويطبق بشكل مؤسسي، وهي ممارسات تجلب العار على إسرائيل وعلى المجتمع الدولي الذي فشل في اتخاذ موقف حازم ضده".

وكجزء من الجهد الدولي الذي بذل لضمان اعتراف بالدولة الفلسطينية في العام الماضي، تبنى حزب الشين فين تحركا من أجل ذلك داخل البرلمان الإيرلندي. وكانت النتيجة أن مجلسي البرلمان أيدا حق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير وطالبا بالاعتراف بدولة فلسطين وأقرا بحق الشعب الفلسطيني في الاستقلال والسيادة.

يقول آدمز: "تكمن المأساة الحقيقية في أن الغالبية العظمى من الفلسطينيين والإسرائيليين يريدون السلام فعلا، ويعلمون أن ذلك يتطلب احتراما متبادلا وجوارا حسنا. ويعلمون كذلك الشكل المحتمل الذي يمكن أن يتمخض عنه السلام، ألا وهو حل الدولتين".

ويبين آدمز أن "النضال الإيرلندي كان يتعلق بحق تقرير المصير متحررا من أي مشاركة أو تدخل من قبل الحكومة البريطانية. لم يكن النضال ذا طابع ديني ولا قومي. ولمساعدتي في فهم النزعة الجمهورية الإيرلاندية المعاصرة، أشار عليّ بأن أطلع على (إعلان الجمهورية الإيرلندية)، وهي وثيقة صدرت خلال انتفاضة الفصح في إيرلندا، وتؤكد في الصميم منها على المساواة في الحقوق والمساواة في الفرص وعلى الحريات الدينية والمدنية وعلى مناهضة الطائفية والمذهبية وفي نهاية المطاف على إقامة نظام ديمقراطي في البلاد). 

يقول آدمز: "تعتبر هذه الكلمات بمثابة عهد لكل مواطن إيرلندي بأن من حقه التمتع بالكرامة الإنسانية على قدم وساق، كأفراد متساوين تتاح أمامهم الفرص بالتساوي. وذلك يعني أن ننعم جميعا بالحرية وبحق تعليم أبنائنا وبالسعي في رزق عائلاتنا دون أن يستغل أحدنا جاره أو يعتدي عليه".

يشبه ذلك إلى حد بعيد نضال الفلسطينيين في سبيل حق تقرير المصير، فهذا الحق بالإضافة إلى حق العودة لجميع اللاجئين الفلسطينيين يعتبر في الصميم من نضالهم. فإذا كان حزب الشين فين لم يتنازل إطلاقا عن هدف توحيد إيرلندا، فهل يطلب من الفلسطينيين أن يتخلوا عن حلم التحرير الكامل لوطنهم وعن حق العودة إلى قراهم التي أخرجوا منها وأبعدوا عنها عنوة؟
 
يقول آدمز: "الشعب الفلسطيني وحده، ومن خلال من يختارهم ليمثلوه، بمقدوره أن يقرر ما الذي سيقبل به وما لا يمكن أن يقبل به كجزء من التسوية. أنا أؤمن بحق الشعب الفلسطيين في تقرير المصير وبأن يكون لهم دولة خاصة بهم كما أنني أؤمن أيضا بحق دولة إسرائيل في الوجود داخل حدود آمنة. وأعتقد بأن على الحكومة الإيرلندية الاعتراف بدولة فلسطين على أساس حدود عام 1967 على أن تكون القدس الشرقية عاصمة لها، كما ورد النص عليه في القرارات الصادرة عن الأمم المتحدة وكمساهمة إيجابية إضافية لضمان إنجاز تسوية للصراع الفلسطيني الإسرائيلي عبر التفاوض يؤدي في النهاية إلى حل الدولتين".

ولكن كيف يمكن لذلك أن يتحقق في الواقع؟ يقول آدمز: "يظل الحوار هو المفتاح لإيجاد استراتيجيات سياسية قادرة على الدفع قدماً بعملية السلام. الحوار شرط أساسي لا مفر من الإقبال عليه".