كتب عبد الوهاب بدرخان: لا بدّ أن الذين ساءهم توصّل الدول الكبرى إلى الاتفاق النووي مع إيران كانوا يجدون مصلحة لهم في استمرار الأزمة والمفاوضات إلى ما لا نهاية، ولعلهم تصوّروا أن تلك المصلحة هي في أن تبقى العقوبات ضاغطة على إيران ومحدّدة لقدراتها، خصوصا بعدما أمكن استشعار أزمتها المالية، سواء في تململات الداخل، أو في تعاملها مع النظام السوري والجماعات التابعة لها، ومنها "حزب الله".
لكن أصحاب تلك "المصلحة" لم يحسنوا استثمارها، ولم يستفيدوا منها عربيا (أو لبنانيا)، مع أن سياسة الاحتواء الأمريكية - الغربية لإيران استمرّت نحو ثلاثة عقود، ولم تمنعها من اختراق المشرق العربي و"تصدير الثورة" إليه، تسليحا وشحنا مذهبيا، وتمزيقا للمجتمعات، وتعايش مكوّناتها.
قبل أن تحتفل إيران بـ"انتصارها" في فيينا، كانت احتفلت بـ"انتصارات" سوداء عديدة، بدءا من التغلغل في العراق، والقبض على روحه، وإفساد خروجه من الديكتاتورية، إلى العبث بلبنان، وتعطيل الدولة فيه، بعد زجّه في حرب مدمّرة وصراعات أهلية، وصولا إلى الدمار الكبير في سوريا واليمن.
تلك انتصارات جيّرتها إيران لـ"المقاومة"، بمعنى مقاومة إسرائيل وأمريكا، وبنتها على حروب أهلية، وإلغاء للدولة، واستدعاء للإرهاب والتطرّف. لكن النتيجة أنها قدّمت لإسرائيل وأمريكا خدمات لم تحلما بها، وعلى هذا الأساس -أي على أنقاض الحواضر العربية- تريد أن "تطبّع" العلاقة معهما.
كان ثمن التعرّف إلى حقيقة عقلية النظام الإيراني، ولا يزال، غاليا جدا عربيا. والأكثر فداحة ثمن الخداع وانكشافه حين يتعسكر مواطن ليتجبّر على مواطِنيه ويصنّفهم بين خونة وعملاء ليستحلّ دمهم. هذا كله سيبقى في النفوس، وسيتحكّم بالمستقبل، ولن يكون السلاح دائما العامل الحاسم، فكل الحروب الأهلية تتشابه؛ نادرا ما يكون هناك منتصر..
وبالعودة إلى الاتفاق النووي، يُراد القول بأنه لم يكلّف إيران شيئا، أي أنها ظفرت بإنجازها العلمي، وباعتراف بأنها أصبحت "دولة طبيعية"، وإيران تترجم ذلك بأنه يمكّنها من مواصلة سياساتها التخريبية كالمعتاد.
أي أنها انتزعت الاتفاق على جثث السوريين والعراقيين واليمنيين واللبنانيين والفلسطينيين الغزيّين، وعلى هذا الأساس تستعد لمواصلة "الانتصارات".
خرج الإيرانيون إلى الشارع للاحتفال بالاتفاق، وبنهاية مفترضة للكذبة الكبيرة، لا للاحتفال برواية النظام الإيراني عن "الانتصار". فمَن احتفل بتلك الرواية هم ضحاياها، تحديدا، ممن ربطوا مصيرهم بالأساطير التي أسكنهم النظام الإيراني فيها، حين أوهمهم أنهم يستطيعون أن يكونوا إلى ما لا نهاية فوق الدولة والقوانين والأعراف وموجبات التعايش مع الآخرين، كما هم الآن في بلدانهم.
هؤلاء يتمنون أن تبقى الهيمنة الإيرانية ليبقوا هم أيضا، فـ"الانتصار" الذي أرجأ السلاح النووي أرجأ أيضا تكريس تلك الهيمنة. لذلك ستعمد إيران إلى التصعيد في كل مكان لنيل الاعتراف بها.