كشف تصريح رئيس أركان الجيش الأمريكي مارتن ديمبسي حول المدة المفترضة للقضاء على تنظيم الدولة والمقدرة من عشر إلى عشرين سنة كثيرا من الحقائق وراء هذه الحرب السوداء، وترك هذا التصريح صدمة، وكثيرا من إشارات التعجب، فهل قدر أبناء المنطقة العيش في الحرب سنينا؟!
ولماذا يحتاج
الغرب بقيادة أمريكا كل هذه السنوات، وهم الذين قضوا على نظام صدام، وحركة طالبان، ونظام القذافي بشهور قليلة؟!
ويدفع تسلسل الأحداث في المنطقة، وطريقة المعالجة للاستنتاج بأنَّ الغرب لا يرغب في المرحلة الحالية –على الأقل- في القضاء على تنظيم الدولة واجتثاثه، فقد حقق لهم تنظيم الدولة جملة مصالح استراتيجية وآنية، ولعلَّ أبرزها التوصل لاتفاق نووي مع
إيران التي وجدت نفسها محصورة في الزاوية، وعاجزة عن نصرة حلفائها في
العراق دون المعونة الأمريكية، فحلفاء إيران أوشكوا على الانهيار أمام تنظيم الدولة لولا مبادرة الشيطان الأكبر مد يد العون! واضطرت إيران إضافة لعوامل أخرى –ليس الآن موطن ذكرها- الرضوخ لاتفاق يحرمها من حيازة السلاح النووي.
ولم بستثمر الغرب تنظيم الدولة هنا فحسب بل وجد في التنظيم أداة لتقسيم المنطقة وتفتيتها، فبعد تحييد العراق عن الصراع العربي الإسرائيلي تُحيد سورية المستقبل عبر إشغالها بصراعات داخلية بداية، ثم إشغالها بعملية البناء ثانيا في حال الإطاحة بالأسد، والقضاء على تنظيم الدولة، وينسحب الأمر لمصر التي يبدو للأسف أنها تسير في نفق مظلم من خلال قمع الحريات، وخلق حواضن للتطرف.
ويخطئ من يعتقد أنْ ثمة تناقض بين موقف الحكومات الغربية من الأنظمة العربية من جهة، وموقفها من تنظيم الدولة من جهة ثانية، فالغرب أجج الخلاف بين الليبيين، ودعم الانقلابيين في مصر، وقدم ما يمكن لإطالة عمر الأسد، ووقف لجانب المليشيات الشيعية في العراق عوضا عن بناء جيش عراقي فأدى ما سبق لتوفير البيئة الخصبة لتمدد التنظيم الذي شكل عامل جذب لكل حاملي الفكر الجهادي المتطرف في العالم، فتخلص الغرب ممن يمكن أن يشكلوا خطرا على أراضيه، وجعل سورية والعراق نظريا مقبرة لهم وللجهاديين على المدى القريب والمتوسط.
ولا يغيب هنا استنزاف وابتزاز أمريكا لحكومات المنطقة الشرعية (الخليج) وغير الشرعية (مصر) أمام الخطر القادم من تطرف تنظيم الدولة، وما التفجيرات والخلايا التي تمّ القبض عليها إلا إرهاصات للقادم السيء إذا ما تمت المعالجة تسير وفق المخطط الحالي.
إذ توضح طريقة المعالجة والنتائج المترتبة بما لا يدع مجالا للشك أنَّ الغرب يدفع بالمنطقة نحو ثقب أسود عبر تجاهله بل وإحجامه عن معالجة الأسباب الحقيقية لنمو التنظيم وتمدده، بل تقدم المعالجة الحالية المتمثلة بدعم طيف عراقي معين (الشيعي) في العراق، ودعم الكرد أعوان الأسد دون سواهم في سورية، واستثناء الأسد دعما غير مباشر لتنظيم الدولة ولا سيما فكريا عند العرب السنة.
ويدرك العارفون بالشأن السوري أنَّ معظم قوات تنظيم الدولة في سورية كانت فصائل ثورية وطنية لا تحمل أي فكر متطرف، لكنها بايعت لاحقا تنظيم الدولة عندما تخلى العالم قاطبة عنهم، ومنع عنهم السلاح، وسمح للأسد قتل الشعب بدم بارد.
ويرتكب الغرب خطأ استراتيجيا إذ لا يمكن التكهن بنتائج هذا التفكير، وقد بدأت النتائج الكارثية لهذه السياسة بالظهور في المنطقة التي بدأت نيران التطرف والفتنة الطائفية تشتعل فيها، ولن تقف –فيما نرى- عند حدود الشرق الأوسط، فما تتداوله وسائل إعلام عن شراء تنظيم الدولة مساحات شاسعة من الأراضي في البوسنة لإقامة معسكرات للجهاديين الأوربيين يوضح حجم الكارثة المقبل عليها الغرب.
وسيجد الغرب قريبا أنَّ اللعبة خرجت عن السيطرة والتحكم إذا استمرَّ في هذه المقاربة، فتشير المعلومات الواردة من داخل التنظيم أنه انتسب في الشهر الماضي فقط في سورية ما يقارب 1000 منتسب جديد، ويبدو أنَّ وتيرة الانتساب سوف تزداد مع تصريح مارتن ديمبسي، فكثير من السوريين وقفوا ضد التنظيم لشعورهم أن لا مستقبل له، أما وقد وصلت الحرب لعشرات السنين فلا بأس بالانخراط بتنظيم متطرف يبدو -للأسف- للكثيرين أنَّه الوحيد الذي يحمل العرب السنة أمام الغطرسة الفارسية والتطرف الكردي.
لم تعد الحلول الترقيعية تؤتي أكلها أمام انفلات الأمور وفشل الغرب بإدارة الصراع وعجز العرب عن تحصين أنفسهم فقد أصبح تنظيم الدولة واقعا له ثقل على الأرض لا يمكن إزالته والحد من شروره حاليا أو مستقبلا دون إيجاد حل جذري لمشاكل المنطقة، وأولى هذه الحلول يتمثل بتمكين الشعوب من حكم نفسها، فأثبتت التجربة أنَّ الأنظمة على شاكلة السيسي وبشار وعبيد الملالي في العراق أكبر داعم للتنظيم.
وينبغي على الحكومات العربية وعي حقيقة النيران التي ستلتهم المنطقة، فاحتراق الطبخة الغربية أو نجاحها سيحرقنا وسندفع الثمن دماء أبنائنا ودمار أوطاننا، وما حصل للآن كاف لكل ذي لب.