كتاب عربي 21

عن التراث والحداثة والبحر المتوسط *

1300x600
تصوروا معي سفينة قديمة، المجذفون مقيدون إلى المجاذيف في أسفلها، والربابنة في الأعلى على سطحها. تصطدم السفينة بصخرة، وتبدأ في الغرق. 

الربابنة، الذين ورثوا السفينة عن أجدادهم، ينقسمون فريقين. فريق يائسون من إصلاح السفينة بعد الاصطدام، فهم يدعون إلى تكسير أجزاء منها تكفي لعمل أطواف صغيرة يتعلق بها الجميع ثم تُشعل النار في ما يتبقى من هيكلها لتراها سفن الآخرين فتأتي لنجدتها، وفريق يصرون على أن إصلاح المكسور من السفينة هو السبيل الوحيد لبقائها طافية على الماء، وهم واثقون في خشب سفينتهم القديمة أكثر من ثقتهم في سفن الآخرين ونوايا ربابنتها. 

وكلما قام الفريق الأول بفك قطعة من السفينة، قام الفريق الثاني بتثبيتها، والعكس بالعكس، فلا السفينة تُصلح، ولا الأطواف البديلة تُصنع، ولا نار الاستغاثة تشعل. 

ويستمر الفريقان في الشجار والسفينة في الغرق، ولا يفكر أي الفريقين في استشارة المجذفين المقيدين في قاع السفينة، ناهيك عن التفكير في فك قيودهم.

إن لعبة الكراسي الموسيقية حول بحيرة الملاحم المسماة بالأبيض المتوسط هذه لم تتوقف منذ آلاف السنين، كان الأتراك في بودابست والعرب في بواتييه والفرنسيون في دمشق والبريطانيون في القدس، لكنها كانت لعبة نخب وخواص، لا حركة حرة لعامة الناس، حركة ربابنة أكثر منها حركة مجذفين.

في العصور الأولى لم يكن الناس يتحركون بأعداد كبيرة، لأن السفر مكلف لا يقدر عليه إلا الأغنياء، أما الفقراء، فلا يتحركون إلا زحفا في الجيوش، وفي الحالين تكون العلاقة بين الوافد الغني أو الغازي، والمقيم الفقير أو المغزو، غير ندية، فتنتفي إمكانية التلاقي الصحي بلا غالب ولا مغلوب. 

أما في العصور الحديثة، فقد صعب التلاقي الثقافي الصحي بين شاطئي البحر التاريخ الاستعماري بينهما وتسلط شماله على جنوبه، ثم نظام الدول القومية والقطرية الذي يحكم العالم، والذي يفرق بين الناس على أساس المكان الذي يحملون جواز سفره، فيكون فلان أكثر حقوقا وحرية من علان، حتى لو كان أخاه من أبيه وأمه، لأن هذا يحمل جنسية أفضل وأكثر مقبولية من ذاك. (وبهذه المناسبة فالتفرقة بين الناس على أساس جنسياتهم هو بنفس عنصرية التفرقة بينهم على أساس الدين أو الجنس أو اللون، فالمرء لا يختار شيئا منها بل يولد بها وعليه أن يتحمل تبعاتها، بل إن اختيار المرء لدينه أو تغييره ربما يكون أسهل من اختياره لجنسيته وتغييرها).

وإنني أزعم أنه بسبب هذه الطبيعة النخبوية للحركة بين ضفتي المتوسط، تولد لدينا في جنوبه الانطباع أن التقدم يعني التغريب وأن التراث عبء وتخلف. لأن النخب المهزومة تمتلك ترف الانتماء لثقافة هازميها، وتعلم لغاتهم والعيش بينهم والتعاون معهم، أم العوام المغزوون في ديارهم، فليس لهم ذلك حتى وإن أرادوه، ولا خيار لهم إلا التمسك بتراثهم راية يتجمعون حولها ومصدرا للتنظيم الأخلاقي والسياسي والعسكري.

 وبما أن اللغة لغة النخب، فهم يسمون خيار العامة تخلفا، من باب التعالي عليه والخوف منه في الوقت ذاته. 

إن تم وهما عند العرب أن المستقبل منقسم إلى خيارين اثنين، التراث والحداثة، أو الأصالة والمعاصرة كما يحب الحكام العرب تسميتهما. 

وهذه الثنائية، في اعتقادي، زُور، لأن المرء لا يمكنه أن يتجاوز تراثه إلا بالغوص فيه، والحداثة في كل حضارة عبور للتراث لا تخل عنه. 

لم تكن صدفة أن مؤسس المذهب البروتستانتي كان قسا كاثوليكيا، وأن المدن الإيطالية التي كانت مهودا لعصر النهضة الأوروبية والفلسفات الإنسانوية  التي قلصت سلطة الكنيسة كانت مليئة بالباباوت والكرادلة وجداريات الكتاب المقدس، وأن الملحمة التي تؤرّخ بها بداية النهضة الأدبية في إيطاليا وتأسيس الهوية اللغوية الإيطالية، كانت تحكي قصة رحلة في اللآخرة يصطحب فيها دانتي وفرجيل، شاعر مسيحي يكتب بالعامية الإيطالية وشاعر روماني هو أكبر شعراء اللاتينية كلهم، والأقدم منهما يقود الأحدث ويرشده. 

إن هذا الغوص والتشبع بالتراث الأوروبي بفرعيه الإغريقي الروماني واللاهوتي المسيحي، هو الذي جعل تمثال داود، الملك التوراتي القديم، المنحوت على النمط الإغريقي القديم، يرمز لإنسان عصر النهضة الجديد المتحرر من كل شيء قديم. ببساطة، إن كنتَ بلا جذور فلن تأتي بتغيير جذري.

لذلك فالحداثة الحقة في اجتهادي هي غوص أعمق في التراث لا هرب منه، ليست الحداثة في الجهل باللغة العربية وعلم الكلام والفقه لحساب الفرنسية والإنجليزية والفلسفة الألمانية، بل هي في المعرفة باللغة وكأن المرء وُلِدَ منشدا للمعلقات وفي معرفة بالفقه وعلم الكلام وكأن المرء درس في مستنصرية بغداد. 

ليست الحداثة سلعة غربية على الناس أن يتخلو عن موروثاتهم ليقتنوها، بل إن كل صاحب موروث قادر على أن يخلق منه حداثة بديلة، فيكون العالم مليئا بحداثات شتى، لا حداثة واحدة تحتكرها ثقافة واحدة تحكم العالم بالقوة العسكرية وتعمم عليه قيمها.

 إن ربط الحداثة بالتغريب في بلادنا مثير للريبة، لماذا نعطي قارة واحدة احتكارا حصريا للمستقبل دون بقية الأرض وسائر العباد؟

صحيح إن ابن خلدون يقول إن المغلوب مولع دائما بتقليد الغالب، في اللباس والطعام وطريقة الكلام وغيرها، ولكن من قال إن هذا يكون سبيلا للحداثة؟ ناهيك عن أن يكون السبيل الوحيد إليها دون سواه؟.

تخيلوا معي مصير البروتستانتية لو أن مارتن لوثر كان مقيما في إسطنبول في القرن السادس عشر، وكتب ما كتب باللغة التركية أو العربية!.

إن نخبنا العربية لم تزل تفعل مثل هذا بالضبط منذ قرنين من الزمان، يدعون للحداثة وهم مقيمون روحيا وعقليا في لندن وباريس، يريدون تحديث أنفسهم من خارجها لا من داخلها، يريدون تحويل سيارتهم لطائرة برميها في السماء بينما يرفضون حتى تعلم قيادة السيارات وتصميم محركاتها!

وليس هذا اختيارا منهم، بل هو أمر تفرضه عليهم مصلحتهم. فمعظم الدول العربية أنشأها الاستعمار إنشاء، ولا أعني هنا أنه أنشأ حدودها وبيروقراطياتها وجيوشها وأجهزة أمنها وحسب، بل أنشأ فكرتها، أنشأ الوطنيات لا الأوطان وحدها، أنشأ انتماءات عاطفية تنافس انتماء الناس لهوياتهم الثقافية الجامعة.

ولذلك فقد كان الغوص في عناصر الثقافة، من لغة وعلم كلام وسائر التراث، خطرا على المنظومة السياسية التي تنتمي إليها النخب في بلادنا هو خطر على الترتيب السياسي والثقافي الذي به تصير النُخب نُخبا.  إن الأغنياء الذين أحرزوا ثرواتهم بسبب خصخصة الإنجليز لأراضي الخديوي في مصر مثلا، أرسلوا أموالهم لبنوك أوروبا وأولادهم لجامعاتها، أصبحت الحداثة في تعلم الإنجليزية والفرنسية، والتخلف في معرفة العربية، وهذا منع إنتاج حداثات بديلة عن الحداثة التي يقترحها عليهم معلموهم الجدد، وترى كثيرين منهم، أمثال؛ سعد زغلول في مذكراته وأحمد لطفي السيد في أكثر أعماله، يتفقون مع مقولات اللورد كرومر في كتابه "مصر الحديثة" إذ يقول إن الاستعمار هو في جوهره عملية تعليمية.
 
لذلك، فإن التبادل الذي حصل في القرنين الماضيين على شاطئي المتوسط، كان تبادلا بين نخبة غازية ونخبة مغزوة، بين ربابنة أوروبا المنتصرين وربابنة العرب المنهزمين، ولكن العلاقة بين المجذفين، العمال، الفلاحين، البشر الطبيعيين في الجنوب والشمال، لم تكن بهذه السهولة.


وقد نتج عن ذلك ظاهرة أخرى، وهو أن النخب العربية كانت تعتقد أن عليها استيراد "أفضل" ما لدى أوروبا من جهة الإنتاج الثقافي، أي أنهم كانوا يريدون الإنتاج الثقافي لنظرائهم في أوروبا، فنخبنا يريدون التعلم من نخبهم لا من عامتهم، هم لا يريدون ثقافة الشعوب القاطنة شمال المتوسط، بل ثقافة حكامها.  وإن من يتابع تاريخ المدارس الأدبية العربية في القرن العشرين يجد أن الحركات الأدبية الأروبية كان تصل إلينا بعد ثلاثين سنة أو يزيد من ظهورها في أوروبا، لأن النخب العربية ما كانت تنجذب لاتجاه أدبي أو فلسفي في أوروبا إلا بعد أن تنجذب إليه النخب الأوروبية وتقره. فالأفكار الثورية في أوروبا كان تُفلترُ وتغربل وتمنع من العبور إلى جنوب المتوسط، إلى أن تقرها النخبة الأوروبية فتصبح هي الثقافة السائدة. 

بعبارة أخرى كانت الأفكار الثورية في أوروبا لا تستورد إلا بعد أن تكف عن كونها ثورية.

لذا فإن حركة الفن والفنانين بين ساحلي المتوسط يجب أن تكون جزءا من حركة الناس العاديين لا حركة النخب الحاكمة ومن تختارهم، حركة مجذفين لا ربابنة، لأن العلاقة بين المجذفين من سفينتين علاقة ندية متساوية حتى وأن كانت إحدى السفينتين مصطدمة بصخرة دون الأخرى. علاقة المجذفين علاقة مغلوب بمغلوب، أما علاقة الربابنة فعلاقة مغلوب بغالب. بعبارة أوضح  أقول إن الحركة الصحية لن تحدث إلا بفتح الحدود والسماح لكافة الناس أن يسافروا من بلد إلى أخر وأن يقيموا فيه بلا تأشيرة ولا إذن، لأن نظام الأذون والتأشيرات هو نظام تنقية، يسمح للنخب والخواص بالتنقل ولا يسمح للبقية. والبقية هم صناع الفنون الأصليون. 

إن السامعين، بشكل من الأشكال، يكتبون اللحن الموسيقي، والجمهور يسهم في كتابة القصيدة. إن اللغة، سواء كانت من حروف كلغة الشعر والنثر أو كانت من أنغام كالموسيقي، هي ذاتها من ابتكار عموم الناس لا خواصهم،  وهم يصنعونها بتلقيهم للفنون وإقبالهم عليها أو إعراضهم عنها أو توفيرهم للفَلَك الفلسفي والقيمي والجمالي الذي تنشأ فيه وتحاوره. إن النخب ودعاة المؤسسات يحبون الاستقرار، لذا يكروهون البدع، وما الفن إلا البِدعُ الحميدة التي يأتي بها الناس، لا حكامهم.

فإن أردتم تفاعلا صحيا بين جنوب المتوسط وشماله اسمحوا بانتقال الناس من بلد لبلد بلا عائق وعلى قدم المساواة. إن المساواة هي شرط صحية أي تفاعل إنساني كريم، وإنه لا كرامة في أن أهل شمال هذا البحر يستطيعون دخول أي بلد جنوبه بدون تأشيرة أو بتأشيرة فورية في المطار بينما على أهل جنوبه أن يموتوا غرقا في أمواجه محاولين الوصول إلى شماله.

 إن التبادل الثقافي الذي تقوده النخب، يؤدي إلى ما يحذر منه ابن خلدون، نخبة مغلوبة مولعة بتقليد نخبة غالبة، وصد أي فكرة ثورية تهدد النخبتين.

أما التبادل الثقافي القائم على المساواة والكرامة والذي يجري على أيدي العامة وألسنتهم وأعينهم وآذانهم، فهو مفتوح على كل الاحتمالات. إن تبادل الثقافات بين العامة لا النخب، سينتج أفكارا ثورية يعتمد فيها كل على تراثه متعلما من تراث الآخر، أما التبادل النخبوي، فينتج أفكارا تلفيقية توفيقية، تحاول فيها النخبة المغلوبة التنكر لتراثها، واقتباس العناصر الآكثر محافظة من ثقافة اللآخر الغالب.

في رقعة الشطرنج، يعلم الملكان أن السبيل الوحيد لبقائهما حيين هو أن يتآمرا لإفناء كافة القطع الأخرى فتنتهي اللعبة بالتعادل. فلو أن القطع الأخرى كان  تقدر على التواصل، أو لو أنها أعادت رسم مربعاتها ليتسع كل واحد منها لقطعتين أو أكثر، لانقلبت قواعد اللعبة رأسا على عقب.

* هذه كلمة الكاتب في مهرجان أكس-أن-بروفانس هذا الشهر، في ندوة بعنوان حركة الفنون حول البحر المتوسط، وكان الكاتب قد اضطر للمغادرة فقرئت الكلمة نيابة عنه، وهو ينشرها هاهنا مترجمة. 
الأكثر قراءة اليوم
الأكثر قراءة في أسبوع