كتاب عربي 21

الإضراب وحرية التعبير

1300x600
لكارل ماركس، مقولة أثبتت الوقائع صدقيتها: "الاستعمار أعلى مراحل الرأسمالية"، فالدول الأوربية لم تحتل دول أفريقيا وآسيا وأمريكا الجنوبية "إيمانا واحتسابا"، أي ليس كفاعلي خير ورسل حضارة، كما زعموا، بل كمصادر للمواد الخام وأسواق لمنتجاتها، وفي ظل العولمة، بات من المؤكد أن الغرب بصدد إلغاء مفهوم "الدولة ذات السيادة"، بذريعة التجارة الحرة، وحقوق الإنسان والشفافية إلخ، والمفكر الكبير مالك بن نبي، كان أول من نبه إلى أن هناك دولا لديها قابلية للخضوع للاستعمار، والمضحك المبكي هو أن الدول العربية أطلقت على حكامها الأجانب اسم الاستعمار، والكلمة من "عمَّر، يُعمِّر، تعميرا". 

وقياسا على مقولة ماركس تلك، فإنني أود لو أن التاريخ يسجل باسمي براءة سبك عبارة "الإضراب – عن العمل - أعلى مراحل حرية التعبير"، وتوصلت إلى هذه العبارة العبقرية، وأنا في لندن في الثامن من يوليو الجاري، عندما دخل العاملون في شبكة قطارات الأنفاق عن العمل لأربع وعشرين ساعة، مما أربك الحياة في المدينة، وسبب الإضراب هو أن البرلمان البريطاني، أصدر قرارا باستمرار قطارات الأنفاق في عملها على مدار الساعة، على خمس خطوط رئيسية، بدلا من التوقف في ساعة متأخرة من الليل. 

وللبرلمان البريطاني أن يقرر ما يقرر، وللشعب أن يقبل وأن يرفض تلك القرارات، وكان الإضراب هذا رسالة للبرلمان: ليس بيدك البت في شيء ليس في يدك، فنحن من نقود القطارات وننظم حركتها، ولو أردتم تعديل مواعيد العمل فيها، فعليكم تعديل شروط خدمتنا، بأن تعطونا المقابل المادي المجزي نظير عملنا الإضافي. 

سعدت أيما سعادة بحدوث ذلك الإضراب وأنا في لندن، ليس لأنني ممن يتمنون الخراب الاقتصادي لبريطانيا، ولكن لأنني من قوم محرومين من حق العمل وحق الإضراب، ولو حصل الواحد منا على عمل في وطنه فتلك "مكرمة"، أما إذا كانت شروط الخدمة تعسفية ومهينة، والراتب لا يعادل الجهد المبذول، فالشكوى لغير الله مذلة، ولو شكوت سترى الويل وسهر الليل. 

ولهذا فثقافة الإضراب عن العمل غير معروفة في الدول العربية، وهناك فئات ونقابات جربت ذلك السلاح، فلم يعد المنتمون إليها يكسبون حتى الفتات، باعتبارهم "خونة وعملاء لإسرائيل وبوركينا فاسو وتكساس ويريدون تخريب الاقتصاد الوطني بإيعاز من تلك الجهات"، بل إن النقابات العمالية والمهنية في بلداننا مجرد ديكور، ليتسنى لحكوماتنا الزعم بأنها تلتزم بتوجيهات وقرارات منظمة العمل الدولية. 

في مصر جمال عبد الناصر وأنور السادات، كان وزير العمل بحكم القانون، هو رئيس اتحاد العمال، (حاميها حراميها. والخصم، حَكَم) وكان أشهر من شغل ذلك المنصب الدكتور عبد اللطيف بلطية، وكان دوره الأساسي ترويض وتدجين العمال، وضرب من يطنطن منهم بـ"البلطة"، وكان رئيس اتحاد العمال في السودان لنحو 15 سنة متتالية بروفسر إبراهيم غندور، ومن هذا المنصب "هوبا" قفز إلى منصب مساعد رئيس الجمهورية ووزير الخارجية. 

في أواخر عام 2011 وكلنا انتشاء بسقوط بعض الأنظمة الديكتاتورية في العالم العربي، شارك عدد من وزراء الإعلام العرب معظمهم  من "دول الربيع"، في منتدى شبكة الجزيرة الإعلامية في العاصمة القطرية الدوحة، حول الحريات الصحفية في تلك الدول، في ضوء المتغيرات التي شهدتها، وتبارى الوزراء الواحد تلو الآخر في تأكيد أهمية صون الحريات الإعلامية، وكرامة الصحفيين، وتحرير كافة وسائط الإعلام من كل قيد، ما عدا قيد الضمير المهني. 

وفور انتهاء آخر الوزراء المتكلمين في تلك الندوة، من إلقاء خطبته البتراء، وكان يدير الندوة الزميل محمد كريشان (الذي كان – كتونسي – منتشيا بسقوط حكم زين العابدين بن علي)، رفعت يدي طالبا الإذن بالحديث، وقوانين الندوات التي يخاطبها مسؤولون تنفيذيون في العالم العربي، تنص على أن حق جمهور المستمعين في التعقيب يقتصر على "الثناء أو طلب إيضاحات"  ولا يجوز لأحد أن يوجه انتقادا للمتكلمين (المسؤولين). 

ولكنني استثمرت عنوان الندوة، ومناخ الربيع لأسأل - بكل اختصار - السادة وزراء الإعلام الذين استبسلوا في الدفاع عن الحريات الصحفية: أليس وجودكم في مناصبكم دليل على أن بلدانكم تعمل على خنق تلك الحريات؟ بمعنى أن دور وزارة الإعلام هو تحجيم الإعلاميين، وممارسة التضليل والتجهيل الإعلامي؟

ليس مهما ما قالوه تعقيبا على سؤالي، ولكن وزارة الإعلام في أي بلد عربي تقوم بدور "السائق" الذي يحدد وجهة وسرعة وسائل الإعلام ومتى وأين تستخدم الكوابح (الفرامل)، ووجود النقابات تحت سيطرة رسمية، يهدف إلى حرمان العمال والموظفين عن التعبير عن المظالم التي يعانون منها، وأهم سلاح لأي نقابة لمحاربة الظلم، وتحقيق المكاسب هو الإضراب، وعلى أي حكومة تحرِّم وتجرِّم الإضراب أن تحترم نفسها ولا تتحدث عن كفالة الحريات.