يمكن للناظر أن يرى الكثيرين يخرٍّبون كل شيء بعناية لكن يمكن سماع السؤال عن غياب الدولة في كل مكان وفي كل مجلس. توجه الأنظار إلى محترفي التهريب على الحدود ويجرَّمون وتتخذ الإجراءات وتحفر الخنادق بين الدول ويوضع في أذهان الناس أن ذلك هو الخطأ الوحيد الذي يجري وأن الدولة بخير وعافية ويكفي أن نحفر خندقا لننعم بالسعادة. لكن الحيلة لم ولا تنطلي إلا على الجمهور الغبي الذي عبثت به آلة الدعاية النوفمبرية المحترفة في التباكي على الأندلس عند حصار حلب. وسنقدم هنا أمثلة على خراب الدولة التي كان شعار استعادتها من (الخوانجية) هو محور الحملة الانتخابية التي أوصلت الحاكمين الآن إلى سدة الحكم.
الفظائع الدبلوماسية.
يجري بدقة متناهية تخريب العلاقات التاريخية بين
تونس وبلدان شقيقة وصديقة. ويبدو وزير الخارجية كأنه مكلف فقط بالتخريب الدبلوماسي وليس بالبناء. فقد توترت العلاقة مع الجزائر إلى درجة سحب السفير للتشاور وهي نصف قطيعة. ولقد جيء بالرئيس الفرنسي السابق ليفتن بين البلدين ويخرب كل احتمالات المصالحة. نفس هذا الوزير حوله الشارع إلى مسخرة وهو يثبت جهلا رهيبا بالتقاليد الدبلوماسية عندما تحدث عن الفيزا بين تونس وتركيا(تونس هي البلد العربي الوحيد الذي يدخل مواطنوه تركيا بلا فيزا منذ أيام اندهاش بورقيبة بنموذج أتاتورك وشخصيته). ثم يهاجم دولة قطر لأسباب لم تكن على جدول أعمال الحكومة التي سعدت كثيرا بمساعدات قطرية أفلحت في تشغيل بعض الآلاف من العاطلين بواسطة القروض الصغرى. وانتهت مغامراته الدبلوماسية بحفر خندق بين تونس وليبيا في الوقت الذي كان الناس ينتظرون فتح الحدود ومساعدة ليبيا على الخروج من أزمتها.
لماذا يفعل الوزير ذلك ؟وهل يكفي التذرع بالجهل ؟
أميل إلى التحليل بالأجندة المفضية إلى تخريب الدولة. فهذه الأخطاء الموغلة في الغباء ظاهريا ليست إلا محاولة قص كل أجنحة البلد مع بلدان يمكن أن تساعده. فلا يبقى له من جناح يطير به إلا ما تمنحه إياه الدولة الحامية (الاستعمارية ) التي يدين لها الوزير بالولاء قبل غيرها. وفي هذا السياق افهم زيارة ساركوزي وتدخله السافر وبطريقة الفرنسيين التعليمية في علاقات البلد بجيرانه الأقربين. لا يفكر من تربي في أحضان الحزب الشيوعي التونسي منذ كان فرعا للأصل الفرنسي إلا في وضع البلد على ذمه ملاكه من وراء البحر. لذلك فالأخطاء ليست أخطاء بل أجندا لها عقل. وهدفها المقصود هو نتيجتها الوحيدة أي تخريب علاقات الدولة وإفشال احتمالات انفتاحها على أكثر من جهة قد يكون لها فيه فائدة. إن النتيجة هي دولة بلا دبلوماسية في عالم يعيش بالعلاقات المتعددة.
العبث بالمدرسة التونسية
كان فخر الدولة التونسية وأيقونتها الدعائية هو نظامها التعليمي فطالما أوهمت العالم أنه في غياب الثروات الطبيعية لا بد من التعويل على الثروات البشرية عبر التعليم والتكوين وصناعة الخبرات. ولكن ماذا يبقى من هذه السمعة عندما تتحول المدرسة إلى أرض معركة سياسية بين الوزير والنقابة؟ الوزير اليساري يشمت بالنقابات اليسارية ويستهدف نقابة المعلمين التي رفعت مطالبها في وقت لم يعد فيه إسقاط الحكومات هدفا نقابيا يساريا كما كان البرنامج النقابي زمن حكومة الترويكا. من أجل ذلك يلغي الوزير الامتحانات ويقرر من جانب واحد منح النجاح الآلي لكل تلاميذ الابتدائي. في سابقة لم يشهد لها التعليم في العالم مثيلا. من أجل تسجيل انتصار على النقابة يتم إسقاط المدرسة. وبالنظر إلى خطورة الأمر على سمعة التعليم التونسي يبدأ الوزير في نشر إشاعات التراجع وإصدار فتاوى الامتحانات بعد أجالها.
ماذا يكون شعور التلميذ والأسرة أمام إدارة تعليمية تتصرف بمثل هذه الطريق الحمقاء في مصيره؟ كيف سيبني تمثله اللاحق للنظام القانوني وللدولة الراعية له؟ لقد أجهزة الدولة على صورتها في ذهن الناشئة بفعل حماقات شخصانية منفلتة من كل رقابة ولا تحتكم إلى أي قانون أخلاقي.
العبث بالقضاء الشامخ.
لازالت معركة استقلال القضاء التي خاضتها نقابات القضاة يتردد صداها في الإعلام لكن كل المدافعين عن هذه المسألة خرسوا أمام التدخل السياسي السافر في سير الدعوى التي رفعها الدكتور المرزوقي الرئيس السابق ببعض الإعلاميين الذين زيفوا بعض خطاباته وروجوا لتهمة خيانة وطنية. قام حزب نداء تونس بالتظاهر أمام المحكمة وإرسال رسائل تهديد علنية للقاضي بل فضح وزير العدل نفسه بنفسه إذ أكد أنه يتابع باهتمام ملف القضية (كأنه معني بشكل شخصي).وهكذا ارتعب القاضي ورمى الملف بعيدا منقذا راتبه وخبز عياله وضمن عدم نقله إلى مكان قصي يفسد نظام حياته المستقر في العاصمة. هذه شجاعة القضاة (المستقلين) وهذا إيمان النخب السياسة باستقلال القضاء والسؤال الذي يطرح الآن في الشارع ماذا يبقى في سمعة القضاء ليطمئن الناس إليه ويحتكمون إلى الأمل في العدالة؟ إنه ترسخ اليقين في أن القضاء هو قضاء بن علي وهو دوما فاسد ومفسد ولا يمكن إصلاحه إلا بنسفه وهو أمر لا يملك المظلومون منه أن يفعلوه.
ماذا بقي من الدولة؟
دبلوماسية فاشلة ومتواطئة ضد المصلحة الوطنية ومدرسة منهارة في أذهان الناشئة وعدالة مخترقة بالخوف والطمع في أذهان المتقاضين؟ ماذا بقي من الدولة إذن؟ هل على الناس أن يعيدوا بناء صورة للفساد المستشري في كل قطاع على أنه الدولة نفسها وأنه لا دولة إلا دولة الفساد. إذن لماذا ضجوا من النظام القديم؟ أليس لإعادة بناء الدولة في أذهان الناس بصورة العدل والمساواة أمام القانون الذي تطبقه مؤسسات ثابتة ومتعالية عن الهوى والشخصنة؟
لقد أقام حزب نداء تونس خطابه السياسي والانتخابي على إعادة هيبة الدولة التي حطت الثورة من قدرها وعبثت بها. واستثار خوف الناس على المؤسسات القائمة باعتبارها مكاسب مهددة بفوضى الثورجيين. لكنه لما تمكن من السلطة(طبعا باستعمال الكثير من أصوات الموتى) أكمل العبث بالمؤسسات وتمييع معانيها السياسية والأخلاقية. فلا العدالة قامت ولا أفق البلد انفتح على رحابة العالم ثم أجهزت النفس الصغيرة المكلفة بوزارة التربية على سمعة المدرسة والعملية التعليمية برمتها. لقد ارتكبت حكومة النداء وشركائها من الأخطاء ما يسقط أربع حكومات مجتمعة لو توفرت معارضة واعية باللحظة التاريخية.
يجوز لنا السؤال هنا أين نحن ذاهبون؟ وهو سؤال بلا إجابة. لأن الإجابة عنه تقدمها معارضة سياسية للوضع القائم ولأخطاء هذه الحكومة الغشيمة لكن ما نلاحظه بكل وضوح أنه بقدر ما تبدو هذه الحكومة عاجزة وتراكم الحماقات وتهيئ نظريا الوضع لمن يخلفها فإن المعارضة تبدو أكثر عجزا وانحطاطا من الحكومة. انها حالة من شلل النخب الكسولة فكريا والعاجزة نضاليا بما يجعل سؤال ماذا تبقى من الدولة يجد إجابته الأولى. هذه الدولة في آخر أيامها لكن ما بعدها لا يبدو واضحا لأحد.