كتاب عربي 21

"راي" الذي أسعدت وفاته بنكيران!

1300x600
في لقاء جمعه بمجموعة من الفيسبوكيين المغاربة، لم يفوت رئيس الحكومة المغربي عبد الاله بنكيران الفرصة ليسجل موقفه من قضية راي، الذي شغلت قصته شبكات التواصل الاجتماعي لأيام، فأعلن عن شعوره بالفرحة حين علم بوفاة الأخير. وكان عُثر على راي مرميا بمنطقة ليساسفة بالدار البيضاء بعد أن اقتلعت عيناه وخِيط فْمه وعبث مجهولون بجهازه التناسلي. ولفظاعة أصناف التعذيب التي لاقاها راي، ومن منطلق كونه حالة غير معزولة، فقد تبنت عدد من الجمعيات المحلية والدولية قضيته لدرجة أن جمعية فرنسية كلفت، وفق أخبار متداولة، ثلاثة محامين لرفع دعوى قضائية ضد الجناة المفترضين. كما تم توجيه عريضة رفعت لرئيس الحكومة المغربية للمطالبة بالتحقيق في النازلة واتخاذ إجراءات تكفل الحد من التعذيب والعنف الذي تتعرض له الحيوانات بشوارع المملكة باعتبارها كائنات ذات حق في السلامة. راي، كلب أوقعه حظه العاثر بين أيدي عابثة أذاقته من العذاب أصنافا، وأدخل خبر وفاته السعادة في قلب رئيس الحكومة لأن ذلك "سيريحه من العذاب الذي كان يعانيه".

مات راي وانتهت القصة بموته وانطلق الفيسبوكيون يبحثون عن "قضايا" أخرى "يناضلون" من أجلها ويتشاركون الصور والمقاطع المصورة الخاصة بها قبل أن ينفض الجمع مجددا وينطلق الفيسبوكيون يبحثون عن "قضايا" ...

ذاك بالضبط الفرق بيننا وبين شعوب عريقة تعلمت من جهة التعامل الحسن مع الحيوان وقبله الإنسان، وتخليد رموزها من الإنس والحيوان بدل تحويلها لمجرد قصص استهلاكية للاستعراض والتنابز بالألقاب من جهة أخرى.

في العام 1924، بدأت قصة  الكلب هارتشيكو مع مالكه الأستاذ الجامعي يينو حيث واظب الكلب على مرافقة "سيده" إلى محطة القطار مغادرا إلى عمله كل صباح قبل أن يعود مساء لانتظاره عودته بباب المحطة نفسها. صار الأمر طقسا يوميا يتابعه الباعة ورواد محطة القطار بانبهار. وفي إحدى أيام شهر ماي من العام 1925 توالى خروج المسافرين العائدين من أعمالهم لكن الأستاذ الجامعي لم يعد. ظل هارتشيكو في انتظار عودة يينو دون جدوى فقد أصيب الأخير بجلطة ذماغية أودت بحياته داخل الحرم الجامعي. استمر الكلب في الحضور إلى نفس المكان كل يوم لمدة فاقت العشر سنوات بشكل جعله رمزا يابانيا للوفاء. ولم يكن غريبا أن تؤرخ السينما لهذه القصة من خلال فيلم محلي أنتج في العام 1987 قبل أن تعيد هوليود إنتاجه في نسخة أمريكية، في العام 2009، حملت عنوان "هاتشي" ولعب فيها الممثل ريتشارد جير دور الأستاذ الجامعي باركر.

من وراء زجاج مكتبه ينظر أحد العاملين في محطة القطار إلى الكلب هاتشي، وهو متسمر في مكانه في انتظار  باركر. الطقس كان باردا. يخرج الموظف من المحطة ويتوجه إلى حيث هاتشي.

الموظف: (موجها كلامه لهاتشي) اسمع، لا داعي لانتظاره. إنه لن يعود..

بعد عشر سنوات تعود زوجة باركر إلى البلدة حيث كانوا يسكنون لزيارة قبر زوجها. وعلى باب نفس المحطة تصادف هاتشي في مكانه المعتاد.

زوجة باركر: هاتشي، ألا تزال في انتظاره؟

بقي الكلب في مكانه دون حراك وعينيه على الباب. عاد يوما ويومين وثلاثا وعشر سنوات قبل أن يفارق الحياة، منتظرا قدوم صاحبه دون اكتراث بشتاء أو ربيع أو صيف أو خريف. لم يفهم الكلب أن صاحبه قد مات ولن يعود،  وربما يكون فهم لكنه كان "ابن أصل" وأصر على إحياء ذكرى صاحبه بعد مماته بالوفاء لموعدهما اليومي لعل "الآدميين" يفهمون معنى الوفاء.

في مصر، كان الموعد قبل أشهر مع حكاية كلب شارع الهرم "ماكس"، الذي قيده ثلاثة أشخاص على عمود إنارة قبل أن يبدأوا حفلة طعنه بالسكاكين والسواطير، على مرأى ومسمع المارة، انتقاما منه لدفاعه عن صاحبه خلال مشاجرة جمعتهم به حيث عض أحدهم في "مكان حساس" وهو المقبل وقتها على الزواج. صاحب الكلب بادل وفاء الأخير له بتسليمه للثلاثة على مذبح اتفاق قضى بسحبهم لشكاية تقدموا بها ضده، فكان ما كان.

انتشرت قصة هارتشيكو عبر أرجاء البلد بعد أن علم بها أحد الصحافيين وأنجز حولها تقريرا فتحول إلى نجم يزوره اليابانيون ويرسلون إليه بالبطاقات البريدية وبالمساعدات بعد أن صار بلا مأوى يقتات من كرم كل أولئك الذين شهدوا على قصة وفاء بلا حدود. وفي دولنا عرَفت بعض الصحافة براي وماكس، لكنها صحافة بلا مصداقية تقتات من القضايا "الفرعية" والهدف تحويل اهتمام المواطن عن قضاياه الحقيقية خدمة لأولي الأمر والنعمة ومراكز القرار. فمن يشمت من أبرياء آدميين يتساقطون تباعا بالميادين والطرقات والشواطئ والوديان وفي كل مكان، استهدافا مباشرا ومبيتا أو إهمالا لا يمكنه بأي حال من الأحوال إدعاء السعي للتعريف بقضايا الحيوان.

في العام 1932، عرف اليابانيون بقصة هارتشيكو فتناقلوها رمزا للوفاء. وفي أبريل من العام 1934 خلدوه بتمثال من البرونز في مدخل محطة "شيبويا" بحضوره قبل أن يموت في الثامن من مارس من العام 1935. وخلال الحرب العالمية الثانية تم تذويب التمثال للمساهمة في الجهد الحربي. ومع انتهاء الحرب أعاد اليابانيون وضع تمثال مشابه في نفس المكان في شهر أغسطس من العام 1948 ولا يزال متواجدا هناك بعد أن سميت البوابة التي كان ينتظر أمامها ب"مخرج هارتشيكو". وفي العام 2004 تم الإعلان عن تمثال آخر للكلب هارتشيكو ببلدة أوديت أكيتا حيث ولد ستون عاما قبل ذلك التاريخ وفيها ترقد جثته المحنطة حتى اليوم.

راي وهارتشيكو وماكس، أسماء غربية لكلاب اختلفت مصائرها باختلاف البيئة التي كتب لهم العيش بها. ليبقى السؤال: ماذا لو قرر سينمائيون من المغرب أو مصر استلهام قصتي راي وماكس لتخليدهما في فيلم سينمائي؟ كيف يمكنهما التعامل مع كل تلك الوحشية والبشاعة المميزتين لمصير الكلبين؟ وهل فعلا يستحق مثل هذا المصير التأريخ له سينمائيا؟

لا أظن أن الأمر يستحق. فما هذه الفظائع إلا امتداد طبيعي لعلاقاتنا "الآدمية"، في الرقعة الجغرافية المسماة وطنا عربيا، التي تحفل بفظاعات أقسى وأمر.

في فيلم "أربعة في مهمة رسمية"، يُكلف أنور أفندي (أحمد زكي) بمهمة إيصال حمار ومعزة وقرد من الأقصر حيث يشتغل إلى القاهرة. بمحطة وصول القطار يفاجأ باختفاء الحمار.

أنور أفندي: ومال فين الحمار؟

عامل بالمحطة: ما هو قدامك اهو يا أخ!

أنور أفندي : ايلي قدامي ده جحش. أنا بسألك عن حمار يا بني آدم!

عامل بالمحطة: هو ده آخر حمار لقيتو في عربية الحوالات.

أنور أفندي: يا نهار اسود. ده احنا كده نروح في ستين دهية. ده حمار الحكومة.

ينتقل الاثنان إلى مركز الأمن..

الضابط: وحضرتك عاوز ايه دلوقتي؟

أنور أفندي: عاوز حمار الحكومة..

الضابط: يفرق كثير اوي عن الحمار ايلي معاك؟ يعني من سلالة خاصة؟ أجداده من بني حمير؟ أنا مش فاهم يا أستاذ انت عامل مشكلة ليه؟

أنور أفندي: أنا مش عامل مشاكل. أنا ايلي حأروح في مشاكل. ماهو لو بتاعي انا مكانش يهمني بس ده بتاع الحكومة. انا جاي أسلمه في مهمة مصلحية. مثبوت في الأوراق الرسمية أنه حمار ولي بيديهولي جحش. اقو ليهم ايه؟

الضابط: تقول ليهم ايلي حصل وتقول انك عملت محضر بالواقعة وده رقم المحضر..

أنور أفندي: وإذا المسؤولين مرضيوش يستلموه؟

الضابط: خليه عندك لما يكبر.

انتهى الكلام.
الأكثر قراءة اليوم
الأكثر قراءة في أسبوع