إن كنا استيقظنا أمس على جريمة إحراق الطفل علي سعيد دوابشة من قرية
دوما جنوب شرق نابلس، فسكان المناطق سي، وقرى
الضفة الغربية المحاطة بها يستيقظون يوميا على الخوف والذعر، على نيران تحرق محاصيلهم وممتلكاتهم ومساجدهم، ورصاص "طائش" لا يجد مستقره إلا في منازلهم وممتلكاتهم وأجسادهم، ما تغير اليوم أن بشاعة الجريمة أوصلتها إلينا.
إن الدرس الذي ينبغي أن نقف عنده جيدا من إحراق طفل رضيع فجرا في بيته، هو أن هذا ليس حادثا طارئا أو فلتة من فلتات الزمن، بل هو حدث يومي تعيشه القرى التي وضعها اتفاق أوسلو ضمن "المناطق سي"، لكنه خرج اليوم عن الحد المألوف فوصل إلى أسماعنا وأبصارنا.
تمت جريمة إحراق الطفل علي دوابشة في قرية دوما التي تقع على مسافة 20 كيلومترا إلى الجنوب الشرقي من مدينة نابلس، على السفح الصاعد من غور الأردن إلى جبال الضفة الغربية، وقد صنف اتفاق أوسلو كتلة المنازل الأساسية فيها على أنها "مناطق بي"، وهي تشكل 5% من مساحة القرية، فيما صنف 95% من الأراضي (17,400 دونم) على أنها من المناطق سي، الخاضعة للسيطرة المدنية والعسكرية
الإسرائيلية الكاملة. تحيط بدوما مستوطنتان وثلاث قواعد عسكرية، ويطوقها حاجزان دائمان ويمر منها طريقان التفافيان لربط المستوطنات المحيطة ببعضها البعض. سكان دوما باختصار هم كالذي يقف على جزيرة وسط طوفان هائج؛ يقف مرتعبا يخشى أن تمتد إليه المياه أو أن يسحبه الطوفان في أي لحظة، ينامون ويستيقظون على الرعب والخوف مع أنهم أصحاب الأرض والحق.
ليست دوما حالة فريدة في الجغرافيا
الفلسطينية التي أنتجها اتفاق أوسلو، إذ يوجد في "المناطق سي" 195 تجمع سكني، يسكن فيها 195,000 فلسطيني يعيشون فيها تحت السيطرة الإسرائيلية الكاملة مدنيا وعسكريا. هذه "المناطق سي" تشكل 61% من مساحة الضفة الغربية، وتضم معظم المساحات الحدودية من الغرب والشرق، والمساحات الداخلية الواصلة بين المدن والقرى. بلغة أخرى، يمكن القول إن أوسلو أنتج جزرا من السيطرة الفلسطينية المحدودة في بحر المناطق سي الخاضعة لسيطرة الاحتلال الكاملة.
إن جريمة إحراق الطفل الشهيد علي دوابشة تعيد إلى الأذهان الحقيقة المثبتة والتي لم يعد من مجال للشك فيها أو الهروب منها، وهو أن اتفاق أوسلو أنتج جغرافيا تخدم المحتل، وتفصل الأرض عن السكان، وتضعهم في كتل مدنية معزولة مجرّدة من أي حماية، عارية تماما ليس أمام جيش الاحتلال فقط، بل أمام قطعان المستوطنين وعصاباتهم المسلحة.
المجرم المباشر هو المستوطن الذي أحرق المنزل، نعم، هذا بديهي، لكن متى سنتوقف عن التفاجؤ من البديهيات؟! المستوطن الصهيوني هو العدو الذي يتوقع منه أي شيء، والذي لا يفترض انتظار أفعال أخلاقية أو عادلة تجاهنا منه، بشاعة الجريمة لا تفاجئ، فقد جربها أجدادنا منذ نكبة 1948 وما قبلها. المفاجئ والمستغرب هو استغرابنا ومفاجأتنا بأن تقع جريمة كهذه!
إن أردنا لهذه التضحية المجانية بأطفالنا ونسائنا وأراضينا أن تنتهي فعلينا أن نكسر جغرافيا الخوف، وأن نستعيد قدرتنا على حماية أنفسنا بالقوة، هذه الوسيلة الوحيدة العاقلة والممكنة لحماية من ينتظرهم مصير علي من أطفال ونساء وشيوخ. مع كل حدث جديد، ومع كل شمس تشرق، تتأكد حقيقة إفلاس اتفاق أوسلو وانعدام جدواه السياسية، وحقيقة الثمن الغالي الذي يدفعه الفلسطينيون من دمائهم وأجسادهم ومقدساتهم ومزروعاتهم وممتلكاتهم ثمنا له، ومع ذلك تصرّ النخبة السياسية التي أنتجت هذا الفشل الصارخ على المضي في النهج ذاته، وتتمكن من الاستمرار في ذلك لسنوات من الزمن.
لكل من آلمته جريمة إحراق الطفل الشهيد علي دوابشة، هذا يا سيدي حصاد أوسلو المر، حصاد المناطق سي التي تشكل 95% من قرية الطفل عليّ قبلها المفاوض الفلسطيني وعاد بها إلينا، ثمن إصرار هذه القيادة نفسها على أن تمضي قدما في تثبيت هذا النهج والجغرافيا، هذا ثمن تجردنا من المقاومة، أداة الردع الأساسية التي في أيدينا بلا مقابل، بلا ثمن سوى الرواتب، بلا دولة، ولا وعد بدولة ولا مستقبل.
إن أردنا أن لا نستيقظ على جريمة كهذه من جديد، وإن أردنا استعادة القدرة على حماية أنفسنا وأطفالنا، فالطريق الوحيد لذلك هو كسر ما أنتجه اتفاق أوسلو من حقائق الجغرافيا، والخروج من "سلام الرواتب" الذي تقوده نخبة أوسلو الفاشلة والمنتهية الصلاحية إلى وحدة على أرضية انتفاضة شعبية تستعيد القدرة على المقاومة، وتستعيد القدرة على ردع الاحتلال، رغم ثقل ذلك على كثير من النفوس.