أنظمة الاستبداد والقمع تستطيع إرساء الاستقرار والأمن والسلام، ولكن ليس إلى الأبد، لأنها أنظمة تقوم على الخوف، أو تقوم على تخويف الآخرين منها، والخوف يخضع لعوامل نفسية لا يمكن أن تستمر إلى الأبد، وشواهد التاريخ على ذلك كثيرة، من بينها الاتحاد السوفييتي الذي انهار سريعا، وتبين أنه عملاق من ورق.
في
مصر يتشكل اليوم نظام سلطوي مستبد يقوم على حكم الفرد العسكري المطلق، يتشكل نظام جديد يقوم على 42 ألف سجين سياسي، وعلى رئيس واحد يريد أن يختار بنفسه 5% من أعضاء البرلمان، ويختار الحكومة وأعضاءها، ويهيمن على السلطات الثلاث، ويمنع التظاهر والاحتجاج والانتقاد، وصولا إلى منع الدعاء على الظالمين في المساجد. ويروج النظام في مصر إلى أن جماعة الإخوان المسلمين متورطة بالإرهاب، والحقيقة أن الخطر الأكبر الذي يواجه المصريين اليوم هو أن تنزلق الجماعة التي تمثل أكبر تنظيم سياسي عربي إلى الإرهاب بالفعل، وعندها تغرق البلاد والعباد في حرب يمكن التنبؤ بشكل بدايتها، لكن لا يمكن لأحد أن يتوقع كيف ومتى ستنتهي.
في علوم الفيزياء لكل فعل رد فعل، أما في العلوم الإنسانية فنحن نقول إن لكل فعل رد فعل لا يستطيع أحد أن يتوقعه أو يتنبأ به بشكل دقيق، فحملات الاعتقال وسياسات القمع والحلول الأمنية، وحالة الشماتة المرعبة بالقتلى من الإخوان، سواء الذين سقطوا في اعتصام رابعة قبل عامين، أو الذين سقطوا في أماكن أخرى، يمكن أن تدفع فئات من الشباب الغاضب إلى الانتقام المتهور الذي يحولهم إلى عصابات إرهابية.
نعلم ويعلم الجميع (ومن لا يعلم فليعلم) أن جماعة الإخوان المسلمين المصرية تشهد حاليا خلافات حادة، وأن مجزرة رابعة، ومن قبلها الانقلاب العسكري، كانا ضربة للتيار الإسلامي المعتدل، ولم يكونا ضربة للإخوان، فخلافات الإخوان اليوم محورها شعار "سلميتنا أقوى من رصاصهم"، إذ ظهر تيار عريض في أوساط شباب الإخوان يرفع شعارا مضادا هو أن "الرصاص بالرصاص والدم بالدم والبادئ أظلم".
ويوجد في سجون مصر اليوم أكثر من 42 ألف معتقل، بينما يوجد في مصر نحو مليون عنصر ينتمون إلى جماعة الإخوان المسلمين، أي أن افتراض أن الـ42 ألف معتقل جميعهم من الإخوان، سيعني أنه يوجد اليوم في الشارع 958 ألف إخواني، تغلي صدورهم وقلوبهم، ويمكن أن ينفجروا في أي لحظة.
حتى الآن لم يحمل الإخوان في مصر السلاح، لأنهم يدركون أنه – أي السلاح- كارثة للبلاد والعباد، لكن المشكلة ستبدأ عندما يخرج من عباءة الإخوان من يئس من الممارسة الديمقراطية، والاحتجاج السلمي، وعندها قد تظهر مجموعات مسلحة غير مترابطة ولا منضبطة، ويومها لن يسمع أحد منهم لا شارات رابعة، التي سيطلقها المرشد العام، ولا لنداءات التمسك بالسلمية التي سيطلقها خيرت الشاطر ومحمد البلتاجي، ويومها ستكون أم الدنيا –لا قدر الله – قد انزلقت إلى هاوية لا يمكن لأحد أن يتوقع نتائجها.
السيناريو الأسوأ في مصر اليوم، والخطر الأكبر، والكارثة المرعبة هو أن يتواصل القمع والاضطهاد والملاحقة للإخوان، وتستمر الشماتة بالموتى من ضحايا رابعة وغيرها، حتى يجنح عناصر الإخوان –بعضهم أو كلهم- تدريجيا نحو العنف، وتخرج من عباءتهم مجموعات إرهابية تتحالف مع "القاعدة" و"داعش" وتفك بيعتها للمرشد العام صاحب شعار "سلميتنا أقوى من رصاصهم"، وحينها سوف يكون النظام في مصر قد حول جماعة الإخوان إلى قنبلة موقوتة تنفجر في وجهه، وتكلف البلاد والعباد الكثير الكثير.
نعلم بأن الإخوان لا يمكن أن يعودوا إلى السلطة، وأن مرسي لن يكون رئيسا، ونعلم بأن أخطاء الإخوان كثيرة وأنهم أضاعوا الفرصة، لكن الانقلاب العسكري يرتكب اليوم أخطاء أكبر، ويمارس قمعا أكبر من ذلك الذي ثار عليه المصريون في يناير 2011، ويستمد الانقلاب شرعية قمعه واستبداده من رغبة المصريين في العودة إلى الاستقرار والطمأنينة، وهو ما يمكن أن يستمر لبعض الوقت، لكنه من المستحيل أن يستمر إلى الأبد.
خلاصة القول إن شباب الإخوان وكهولهم في مصر لا زالوا على البيـــــعة، ولا زال من الممكن إقناعهم بأن الديمقراطــــية والتداول السلـــمي للسلـــطة يمكن أن يلبي الرغـــبات والمطــــالب، ولذلك فلا زال في الــــوقت متسع لإجراء مصالحة شاملة في مصر، تطوي صفحة الماضي، وتتيح فرصة المشاركة في الحياة السياسية للجميع وبالتســاوي، وعلى قاعدة "لا غالب ولا مغلوب"، وعلى قاعدة "عفا الله عما سلف".
(نقلا عن جريدة "القدس العربي").