كتاب عربي 21

شعب لا يستحق الحياة

1300x600
بداية أتبرؤ من العنوان؛ إذ أنني لست صاحبه ولا داعيا له، بل هو كلام يتناقله أغلب المهتمين بالشأن العام، وبعض المطلعين على الحياة في الدول المتقدمة، فيغتمّون لحالنا ويطلقون ألسنتهم ذمًّا ودعاء على هذا الشعب الذي لا يستحق الحياة، في سوء أدب مع المتوَجَّه إليه بالدعاء، وسوء تقدير لمكانته هو ونظرته لنفسه؛ إذ ظن أنه أفضل من غيره.

الملاحظ أن جزءا غير قليل من هؤلاء الذامّين يصبون لعناتهم إذا كان التوجه مخالفا لرؤيتهم، فمثلا على الجانب السياسي، كان خطاب التيار الإسلامي يتحدث عن الشعب الواعي الذي ينتمي لثقافته الدينية ويختار أهل الدين والصلاح، وفي مقابله كان خطاب العلمانيين عن الشعب الجاهل الذي يستحق الحرمان من التصويت أو جعل صوت المثقفين بصوتين من هؤلاء الجهلة، وعقب التغيير الحاصل في يوليو 2013 تغير الخطاب ليصبح عند الإسلاميين شعب العبيد وشعب الأحرار، وبالمقابل شعب المدنية والحضارة وشعب الخرفان والظلام، فأصبح توجيه اللعنات متصلا بالاختيار السياسي، حتى سمعنا من يقول أن هذا الشعب لا يستحق الحرية ولا النعمة التي ساقها الله له بالرئيس الصالح، وحتما سنسمع مثلها عقب إزاحة النظام الحالي، ولا بد من الإشارة أن الحديث عن مجمل النقاشات لا كلها قطعا، فمنها المتجاوز لتلك الحالة.

هذا الحادث على الجانب السياسي، نجد مثله على الجانب الاجتماعي والثقافي وحتى الاقتصادي، ففي كل أزمة تحدث على أي صعيد نرى تلك الجمل تتصدر المشهد، فهناك من يرى الشعب رجعيا متخلفا لأنه لا يسمح بعلاقات قبل الزواج، وتارة نراه متحللا لزيادة حالات منع المحجبات من بعض الأماكن العامة، وتارة نراه رشيدا لأنه يمتثل لتوجيهات الحكومة في الاستهلاك "أحيانا"، وأخرى نراه همجيا لا يمكن تقدمه لعدم امتثاله، وهكذا في مناقشات عدة يكون ذم المجتمع وثقافته حاضرا وبوضوح.

لا تنكر العين ما أصاب المجتمع من تشوهات أراد الاستبداد إنباتها وإرواءها، فأصاب التشوه كل القطاعات وكل المجالات، لكن التشوه ما يلبث أن يتراجع أمام الاختبارات التي يتعرض لها، ويبدو ذلك جليا في ثورة يناير حينما خرج الملايين دون توقع ليسطروا للساسة أحرفا من نور طمسوها بعنادهم وحماقتهم واستبدادهم الذي تأثروا فيه بمبارك، ثم بدا بشكل أبْيَن في مواقف الانقسام السياسي بدءا من استفتاء مارس مرورا بكل المحطات الانتخابية، فكان الاستقطاب على أشده قبل كل عملية، والمجتمع ساكن لا يتحرك إلا وقت الاستحقاق ليعبر عن موقفه برقي وهدوء ثم يعود لمكانه، كل ذلك جرى حتى تورط المجتمع في معركة الساسة الدنسة منتصف 2013.

خرج الملايين ساخطين على نظام الإخوان، واستغل العسكر بظهير مدني السخط لتوجيه الدفة، ورضي بذلك المسار كثيرون، الأمر الذي استوجب لعنات الإسلاميين وتشويه الساخطين عليهم، لكن الأهوج الذي أمسك بالمقاليد اختار مسار الدم والقتل، فانفضت الدائرة من حوله رويدا رويدا وانسحب المجتمع مما تورط فيه، حتى صار الحاكم في وضعه الحالي الذي استجدى فيه المجتمع للنزول للمشاركة في انتخابه "الاستفتاء عليه"، وما تبع وصوله من إخفاقات واتساع دائرة الرفض له، ولا يستلزم رفضه الاصطفاف مع شرعية سلفه. ولا أدَلَّ على تحلي المجتمع بالحُسْن، من تقييم التظاهرات التي عمت الأرجاء عقب مجازر الفض، ليقول المجتمع أنه إن كان رضي أو تغاضى عن التغيير الجبري، فإنه لم يرض أبدا باستحلال الدماء بهذه الصورة، نعم رضي بها قوم كثر لكن تغير حال التظاهرات من المحدودية للاتساع الكبير يشير إلى أن المجتمع لا يزال حيًّا.

الميدان الآخر لاستجلاب سخط "المثقفين"، ميدان الثقافة، فالمجتمع يتنازعه تيار تغريبي وآخر مخاصم للمارسة السوية، فالأول يتحدث عن مطالبات غير متوافقة مع قيم وثقافة المجتمع، بل ويفرض عليه أفكاره كمنع المحجبات من ارتياد بعض الأماكن العامة، أو إجبار المرتادين لأماكنه على ارتداء لباس محدد للبحر للحفاظ على المظهر العام لمكانه، والفاعلون ذلك تحديدا يحملون تحت مظهرهم المترف القوي خسة ودناءة وانبطاحا لا حدود لهم، للدرجة التي دعتهم لتعرية الفتيات ظنا منه أن ذلك تقدما وحرية، وفي الدول التي يريد أن يقلدها لا نجد مثل ذلك المنع على هذا النطاق، أما الآخر المخاصم -كذلك لأفكار المجتمع- لا يدري كيف يحيا بشكل سوي في ظل مجتمعات أصبحت أكثر انفتاحا، وتقدر قيمها وثقافتها الموروثة، فيحب الفن ولا يتفاعل مع الابتذال، وما تبدو من ممارسات مشوهة إما هي في جانب الوصف بأنها طبيعية من حيث تعدد الأذواق ما بين الراقي والفاسد، أو الضعف أمام ضغوط حياتية تجعل الهروب منها منصرفا إلى أي باب، وهذا الأخير من أوْهى محددات الثقافة وما يلبث أن ينقضّ عند أول محاولة جادة لتحسين الذوق العام.

ليس ممكنا الهروب من واقع التشوه الذي أصاب المجتمع، كما أنه ليس ممكنا وصفه الدائم بالقبح لأنه ليس كما يتصوره الناظر إليه، بل هو يحمل في طياته الحسن والقبح لا أحدهما فقط، ويخضع ما يبدو منهما للسلطة وأيضا لمتصدري الشاشات على اختلاف مهنهم، والمطلوب المساهمة في التوعية، لا الذم وصب اللعنات اللذان يسهمان في إذكاء الجهل.