"دعه يعمل ... دعه يمر" هو الشعار الأشهر الذي أطلقه الفيلسوف الأسكتلندي آدم سميث 1723 1790 من خلال كتابه "بحث في طبيعة وأسباب ثروة الأمم" الذي ساهم بشكل كبير في تحرير السوق من رقابة الدولة وفي صناعة النظام الرأسمالي في شكله اللبرالي المتوحش الذي نعرفه اليوم خاصة بعد أزمة الكساد الكبير 1929.
في المنطقة العربية اليوم وفي داخل بنية النظام السياسي الاستبدادي تنشأ قاعدة جديدة على أنقاض القاعدة الرأسمالية وهي التي تسمح بتحرير " قطاع الفساد" من رقابة الدولة ومن رقابة المؤسسات المكلفة بعملية الرقابة من قانون وقضاء. القاعدة قديمة لأن الفساد ليس قطاعا من قطاعات دولة الفساد العربي بل هو قطاع القطاعات وأساس الأسس التي ترتكز عليها أنظمة التخلف العربية.
هاته الأنظمة إنما صُنعت استعماريا وتُحرس استعماريا من أجل تكريس الفساد وكل الأشكال الثقافية والسلوكيات الأخلاقية المرتبطة به لأنها قادرة وحدها على تحقيق هدفين أساسيين. يتمثل الأول في الحفاظ على المصالح الاستعمارية لهذه الدول ولشركاتها وبنوكها من نهب للثروات وسيطرة على موارد الدولة المستعمَرة وهو الهدف الأساسي من عملية الاستعمار العسكري المباشر. أما الهدف الثاني فيتمثل في منع الدولة من تحقيق أي شرط من شروط التغيير المؤدي إلى نهضة حقيقية عبر انتقال ثوري أو إصلاحي يسمح بالقضاء نهائيا على الفساد الذي هو القاعدة الحقيقية للتخلف.
الفساد العربي خاصة في بعض الدول الغارقة فيه حتى النخاع ليس ظاهرة بل هو الدولة نفسها فالفساد هو الدولة مع بعض الإيهام بوجود الدولة. أي أن الدول الغربية مثلا هي دول فيها فساد أو بعض فساد لكن في الدول المتخلفة القاعدة تنعكس ويصبح الكل جزءا والجزء كلا فالدولة طارئة على الفساد وليس العكس الدولة هي الفساد فهي بتعريف أدق "فسادٌ مع بعض الدولة".
مصر مثلا بما هي واحدة من أغنى الدول العربية لمن يعلم ولمن لا يعلم تمثل نموذجا حقيقيا عن العمق الذي يمكن أن يصل إليه الفساد المهيكل بما هو " دولة الدولة " لا "دولة داخل الدولة ". هناك تسيطر لوبيات النهب والسطو المقنن على كل القطاعات الحياتية للمواطن المصري من الصناعة إلى الفلاحة إلى التجارة إلى كل موارد الدولة السيادية وهو ما جعل دولة عظمى كمصر قادرة على إطعام قارة بكاملها تتحول إلى دولة للتسول على أعتاب البنوك الدولية والقوى العظمى ودول الجوار الإقليمي.
مصر عاجزة اليوم عن إطعام أبنائها من الفقراء والمساكين الذين تكتظ بهم مدن الصفيح وأحياء المقابر المنتشرة في كل أرجاء أعظم دول المشرق العربي. مصر أو "الرجل العربي المريض" تلخص وحدها كيف يمكن للاستبداد السياسي الحارس للفساد المالي والقانوني والاقتصادي أن يطيح بأعتى الكيانات السيادية العربية.
في تونس تستعد "عصابة السرّاق" ـ كما سمّاها المتظاهرون خلال ثورة 17 ديسمبر المجيدة عبر شعار "التشغيل استحقاق يا عصابة السراق" ـ إلى تمرير "قانون المصالحة الاقتصادية" الذي سيسمح بتبييض شبكات الفساد والنهب التي دمرت الاقتصاد التونسي وكانت سببا في تفجير "ثورة الحرية والكرامة". القانون سيعفي كل "رجال بن علي" الفاسدين من مسؤولية المحاسبة وإرجاع الأموال المنهوبة بقانون سيصادق عليه نواب مجلس الشعب بعد أن تمّ منحهم مكافأة على شكل منحة تناهز الألف دينار في الوقت الذي تكتظ فيه البلاد بطوابير العاطلين وجيوش الفقراء والمحرومين.
النهب المنظم والمحميّ بالقانون الضامن لحقوق العصابات ورجالات الشركات الأجنبية هو الداء الذي ينخر جسد الأمة وهو الشرط الذي فجر ثورات الكرامة المطالبة بالعدالة الاجتماعية وبتوزيع عادل للثروات. هذا الوباء المستشري في الجسد العربي المريض تحول خلال سنوات إلى ثقافة كاملة وإلى نسق اجتماعي تعيش في داخله وعبره آلاف المجموعات التي تقتات من أموال الفقراء ومن مستقبل أبنائهم.
لكن من جهة أخرى يمثل الفساد كما قلنا قادحا أساسيا للتغيير الاجتماعي والسياسي وسببا مركزيا من أسباب الثورات التي أدركت عبرها الجماهير خطورة الوضع الذي وصل إليها واقعها اليومي بسبب هذا الوباء. وليست الثورات المضادة والانقلابات التي عرفناها في المنطقة العربية إلا ردة فعل من شبكات النهب على النسق السياسي والاجتماعي الجديد الذي قد يهدد المغانم التي راكمتها طيلة عقود من الزمان.
"دعه ينهب... دعه يمر" اليومَ لكن غدا ستكون له الموجات الثورية الجديدة بالمرصاد لأن الوعي العربي الجديد قد استعاد المقولة الخلدونية بأن العدل وتطبيق القانون أساس العمران وبأن الظلم والفساد والنهب تؤذن بخراب العمران وتؤذن كذلك بالثورة وبالانفجار الكبير.