لم يعد خافيا على أحد أن المسلمين السنة في
لبنان وَلَجوا مرحلة متقدمة من الإحباط باتت تنذر بضياع هويتهم الاجتماعية والسياسية، في بلد يُشرعِن دستوره العنصرية الطائفية وينظم العلاقة بين المواطن والوطن بانتماء مزدوج يبدأ للطائفة وينتهي "على" الوطن.
حديث الشارع السني اللبناني يكاد يكون موحَّدا في طول البلاد وعرضها، وهو أن السُنة يتعرضون للاضطهاد نتيجة سيطرة حزب الله على مفاصل الحكم الحقيقي، حيث اجتذبت هيبة القوة التي أنتجتها دولته الموازية مجموعات من كبار الموظفين الفاعلين في الدولة، من مختلف الانتماءات الطائفية، وشكلوا دولة عميقة تمتد جذورها الأمنية والقضائية إلى حقبة الوصاية السورية على لبنان، التي احترفت تطويع الشخصيات من مختلف الاختصاصات، وتجنيدها بالترغيب قبل الترهيب. وبتوصيف أدق فإن حزب الله ورث منفردا إدارة النظام السوري للبنان برغم وجود شركاء له في الحكم والحكومة من خصومه السياسيين، وهم شركاء لم يغب معظمهم عن المشهد أصلا خلال حكم ضباط المخابرات السورية لبلاد الأرز، لكن لم تتخط طموحاتهم في حينه ولا اليوم حدود تأمين مصالحهم وعائلاتهم وأتباعهم.
ويعطي من يتبنى فكرة "السُّنة المضطهَدون" أمثلة من مظالم كبيرة وقعت على أهل السنة، مثل جريمة قتل نحو خمسين مصليا بتفجير مسجدَين في مدينة طرابلس في آب أغسطس 2013 ، ثم تسهيل هروب المتهمين الرئيسين بالتخطيط للتفجيرين من الميليشيا "العلوية" إلى سوريا. كذلك برز الحكم القضائي المخفف إلى درجة لا تُصدَّق على ميشال سماحة الذي ضُبط متلبسا بالصوت والصورة وهو يَشرع بإدارة تنفيذ أكبر سلسلة تفجيرات، كانت ستقتل المئات وربما الآلاف من سُنة طرابلس وريفها الشمالي والشرقي، لولا كشف قائد فرع المعلومات الأمني وسام الحسن للمخطط، لكن وسام الحسن "السُني" قُتل بعد ذلك بتفجير مدمّر فيما يستعد ميشال سماحة للعودة إلى الحرية وإلى ممارسة هوايته المفضلة في أكل "الصُّبَّير". ولا ينسى متبنو فكرة الإحباط عدم تفكير أجهزة الدولة، ولو من باب حديث النفس، بإلقاء القبض على المتهمين باغتيال رفيق الحريري، وجميعهم أعضاء في حزب الله. بالإضافة إلى ما تتعرض له مدينة عرسال "السنية" على الحدود الشرقية مع سوريا من تهديدات، كذلك توقيف عشرات الإسلاميين منذ سنوات بملفات أمنية متعددة لكن دون محاكمات، فضلا عن عشرات حالات الظلم المتنقلة في السجون وغيرها، واقتصار التطبيق الفعلي والحازم للخطط والعمليات الأمنية الرسمية على المناطق ذات الأغلبية السنية. كل ذلك يجري بمواكبة ورشة فذلكة سياسية وإعلامية مفتوحة ودائمة، تتولاها مؤسسات حزبية وإعلامية بلغ تفلتُها حدود وصف رئيس الحكومة العلماني تمام سلام بأنه "داعشي" لمجرد أنه سُني، فيما هؤلاء أنفسهم يفتحون منابرهم بكل اعتزاز واحترام للإرهابيين الفارين من وجه العدالة، المتهمين بتدبير تفجيرَي مسجدَي طرابلس، وبدل أن يصفوا ميشال سماحة بالإرهابي يصورونه بأنه ضحية.
هذه الحالات التي يوردها المحبَطون هي تحديات كبيرة يمكن مواجهتها ولا يجب أن تقود طائفة هي جزء من أمة تشكل غالبية سكان المنطقة إلى الإحباط. فما هي الدوافع الذاتية عند الطائفة السنية لهذا الشعور باليأس والعجز والفشل والتدني، وعدم القدرة على التصدي والإنجاز، قبل أن تضع اللوم على الآخرين؟
أولا، لا وجود لحياة حزبية حقيقية في الساحة السنية تؤطر الجهود والطاقات في مشروع واضح يعزز منعة الطائفة في إطار الشراكة المتكافئة مع سائر مكونات الوطن. أما بالنسبة لتجربة تيار المستقبل التي لم تنضج بعد، فيكفي لأخذ فكرة عن العقلية السائدة فيه أن نعرف أن رئيس التيار ومدير مكتبه والأمين العام للتيار هم من عائلة واحدة، ثم إن التيار لم يطرح نفسه يوما في أدبياته وفي ممارساته كممثل للطائفة السنية، بل إن مواقع تنظيمية أساسية فيه تشغلها شخصيات من طوائف أخرى بخلاف القاعدة السائدة في الأحزاب اللبنانية الطوائفية الكبرى (حزب الله، حركة أمل، الحزب التقدمي الاشتراكي، حزب الكتائب، القوات اللبنانية، التيار الوطني الحر، تيار المردة)، ومع ذلك فإن متظاهرين مسيحيين تابعين لميشال عون، رفعوا قبل أيام قليلة لافتات في شوارع بيروت تصف تيار المستقبل بأنه الدولة الإسلامية (داعش) الحقيقية.
ثانيا، لا وجود لميليشيات عسكرية سنية قادرة على تحقيق التوازن، وهذا أمر موروث منذ زمن الحرب الأهلية عام 1975 حيث تفتخر الشخصيات السنية أن ليس على أيديها دماء، فيما يفتخر قادة الطوائف الأخرى بأنهم قاتلوا حين وجب القتال دفاعا عن ناسهم وعن "لبنانهم".
ثالثا، لا وجود لزعيم سني حقيقي في لبنان، فأبرزهم سعد الحريري فُرضت عليه الزعامة بعد اغتيال والده دون اختيار منه، وهو تعامل معها مثل الفروض المدرسية في مادة لا يحبها ولا يجيدها. يليه نجيب ميقاتي الذي وإن كان أكثر التصاقا بالناس واحتياجاتهم، إلا أن وسطيته جعلته خارج المحاور الإقليمية المتحكمة بخطوط القرار، فضلا عن أنه مسالمٌ أكثر بكثير مما ينبغي. أما فؤاد السنيورة الذي حنكته تجربته المرة في رئاسة الحكومة، فمشكلته أنه جزء من مجموعة عائلة الحريري، وهو يجلس مباشرة في المقعد الأمامي للدرجة الثانية الذي يلي كراسي الدرجة الأولى لأركان العائلة.
رابعا، لا وجود لإعلام سني قوي في لبنان، فتلفزيون المستقبل وبخلاف التلفزيونات اللبنانية الحزبية الأخرى، لم يُنشَأ للدفاع عن طائفة، وإذاعة الشرق (المستقبل) أميَل لنمط الإذاعات الطربية، أما على صعيد الصحافة فتحظى صحيفة اللواء المستقلة بسمعة محترمة لكن تسويقها ضعيف، أما صحيفة المستقبل وظهيرتها صحيفة الشرق فتأثيرهما في الرأي العام يكاد يكون معدوما. لكن وإن كان إعلام "المستقبل" لم ينجح كما يجب، فإن وجوده بحد ذاته يشكل تقدما كبيرا على نجيب ميقاتي الذي يكتفي حتى الآن من سلطة الإعلام بامتلاك موقع إلكتروني (لبنان 24)، لم يتضح بعد خطه المهني وحتى السياسي.
خامسا، ضعف المجالس البلدية في المدن والقرى السنية، فمعظم رؤساء وأعضاء هذه المجالس يتم اختيارهم بناءً على ولائهم السياسي بغض النظر عن أهليتهم وكفاءتهم.
سادسا، انعدام الثقافة السياسية عند الغالبية العظمى من المواطنين السُنة الذين يقترعون بعد حقنهم بجرعات عصبيات طائفية من اللادينيين أنفسهم الذين يخجلون لاحقا من تمثيل طائفة بعينها، رغم أنهم لا ينفكون يعلنون في الوقت ذاته عن تفهمهم للهواجس الطائفية عند شركاء الوطن.
سابعا، إضعاف دَور دار الفتوى كمرجعية للطائفة من قِبل السياسيين الذين يتصرفون بالدار وكأنها جزء من مكاتبهم، فيفرضون أسماء المفتين والمجالس الشرعية ودوائر الأوقاف، وغالبا ما يُطعّمونها بأشخاص غير مناسبين للموقع.
ثامنا، انحسار دور الجماعات الإسلامية بكل تشكيلاتها، وهو يكاد يكون ظاهرة لبنانية، ففي الوقت الذي اجتاح تنظيم الإخوان المسلمين برلمانات دول "الربيع العربي" كان الفرع اللبناني للتنظيم "الجماعة الإسلامية" يقبل بالاكتفاء بنائب واحد تم تأمين فوزه في انتخابات عام 2009 بانضمامه إلى لائحة "المستقبل" في بيروت. ولهذا الانحسار أسباب شتى تحتاج إلى مقال منفصل.
تاسعا، بروز التيار الإسلامي المتشدد في المنطقة وقيامه باعتداءات لم يسلم لبنان منها، أوجد لدى كثير من سُنة البلاد عقدة الاتهام المسبق بالإرهاب، فجنح هؤلاء إلى التخلي أحيانا عن أبسط الحقوق خشية وصمهم بالتطرف.
عاشرا، وهي النقطة الأهم أن السُنةَ دين وليست إطارا حزبيا كما تعامل معها كثيرون من سنة لبنان، ابتعدوا عن الدين كثيرا وألهبوا في الوقت ذاته مشاعرهم بالمظالم الواقعة عليهم وعلى أمتهم في مشارق الأرض ومغاربها، علما أن السُنة تعريفا هي سنة محمد، ومحمد عليه الصلاة والسلام هو رسول الله ورحمته للعالمين، وضع منهاجا للحياة يطبقه المؤمن على نفسه قبل المجتمع. وإذا كان المثل الشعبي اللبناني يقول (ليس كل من قال سُكر سيذوق الحلاوة في فمه)، فإن واقع الحال يقول (ليس كل من قال أنا سُني يمثلني...).