عقد التحالفات السياسية المرحلية والدائمة من صلب العمل السياسي في الديمقراطيات العريقة. ولكنه يتم دوما على أساس من تقارب البرامج والرؤى السياسية وقد يتم في ظروف طارئة كالأزمات الهيكلية والكوارث بقطع النظر عن البرنامج وذلك من أجل إنقاذ مرحلة بتجاوز أزمة. سنعود هنا بالقراءة إلى تحالف حزب نداء
تونس وحزب النهضة في هذه المرحلة من عمر التجربة الديمقراطية التونسية. هل هو قائم على وحدة برامجية أم على ظرفية الانتقال الديمقراطي حفاظا على كيان الدولة.أم على تعادل قوى في سياق تناف.
1. الهروب من اليسار إلى حضن النداء.(وهم الخلاص)
أفرزت انتخابات 2014 وضعا سياسيا تعسر إدارته. فالحزب الأول ليس أغلبيا ليحكم وحده. والحزب الثاني ليس ضعيفا ليقصى نهائيا. وبقية الأحزاب أضعف من أن تأتلف لتشكل كتلة معدلة. وهي أحزاب بالصدفة لا بالفعل. لكن الصعوبة لم تكن عددية. ذلك كان عرضا يمكن تجاوزه. العقدة كانت فيمن يتحالف مع النداء لكي لا يموت. هذه أعسر خلاصة خرجت من صندوق الاقتراع. لا لأن النداء يمنح الحياة بل لأنه يستفيد من حرب ضروس تدور منذ ثلث قرن بين تيارين لم يفكر أي منهما إلا في تدمير الأخر. اليسار والإسلاميين. لم يطرح التياران السؤال عمن خلق وضعية الاحتراب بينهما ولماذا يجدان نفسيهما بعد الثورة يواصلان نفس الحرب؟ ومن المستفيد؟. كان المستفيد واضحا أمامهما. ويعرض التحالف المنقذ على أحدهما ويختار مرتاحا قتل الآخر .
فضل النداء النهضة الإسلامية على الجبهة اليسارية. لما لها من وزن في الشارع يكفل له الهدوء طيلة فترة حكمه. فالنهضة هي الحزب الوحيد القادر على تسيير مسيرات ضخمة وتعطيل أي مرفق لو أراد ذلك. اعتقد النهضويون أنهم نجوا من العزل السياسي بدخول الحكومة. لكنهم في الحقيقة وقعوا في فخ تحالف مع حزب فاسد. يعرفون انه فاسد وإجرامي بل إنهم أعرف الناس به لكنهم في اجتهادهم بين السيئ والاسوء. توهموا النجاة في مركبه فأعادوا للنداء وهو العمود الفقري للنظام الفاسد قوته ومكنوا له من السلطة بوسائله لا بوسائل الديمقراطية. هل كان هناك خيار آخر؟ للنهضة إجابة تقنعها سنعرض لها من زاوية أخرى.
2. النداء هارب من الشعب ويستعمل النهضة للتغطية(حيل التطهر).
حزب النداء يعطي انطباعا بأنه حزب مفكك وبلا برنامج وتتصارع فيه شقوق كثيرة يسارية وليبرالية ومحافظة. ومعارضوه الذين يروجون لهشاشته يجلس في أغلبهم في المقاهي وينتظر انهياره. لكنه حزب قوي جدا على خلاف ما اعتقدنا سابقا بأنه "حزب تلفزة". إنه حزب مصالح مباشرة. حزب غنيمة لا حزب فكرة أو مشروع. حزب إذا دخلته أو احتميت به غنمت وسلمت. انه يفكر ككرتال مخدرات. كلما اقتربت وأخلصت وخدمت غنمت وإذا تعففت تموت. هكذا اشتغل حزب الدستور ثم التجمع ثم النداء.
كثير من المنخرطين جاءه احتماء من ماضيه وحماية لغنائمه منذ العهد البائد. وآخرون رؤوا التكالب على الفائدة فاختاروا إليها أقصر الطرق. وآخرون لديهم أجندة جهوية لا يفرطون في موقعهم الذي ورثوا عن الزعيم. وآخرون لهم أجندة فكرية تقترح هوية جديدة للبلد. وغثاء كثير لا يفكر لكنه بلا ذمة. يمكن أن يغير ولاءه بدينار ولا أحد يملك أن يعطي هذا الدينار غير النداء.
يحتاج هذا الخليط إلى غطاء لم يلوث وليس أصلح لذلك من حزب له مرجعية دينية. فتغطى بالنهضة. لكن في ممارساته تحت الغطاء لم يتخل عن الابتزاز عبر التهديد الدائم بالتحالف مع اليسار المتربص خارج الحكومة شكلا والساكن في مفاصلها فعلا.
يتحالف النداء مع النهضة لتكون له حكومة مستقرة ولا يمنحها إلا وزارة وحيدة تقنية فتقبل فيزيد. يطرد كوادرها من الإدارة ويعين كوادره فتقبل وتصمت. يمنعها من الصلاة في الساحات فتقبل. يطرد أئمتها من المساجد فتقبل. يغلق قنواتها الإعلامية فتقبل. يعتقل بعض منخرطيها ويعذبهم فتقبل. يمرر بها كل القوانين المعادية للديمقراطية فتقبل. وأول حركة تمرد أو حتى تصريح بسيط متململ. يخرج اليساري عارضا التحالف مع النداء. تهرب النهضة من غول الإقصاء اليساري فتقع في سَلاَّلْ العُقُول التجمعي. فبعد تصريح القيادي عبد اللطيف المكي بأن قانون المصالحة لن يمر. خرجت راضية النصراوي (المتحكم الحقيقي في الجبهة اليسارية) لتقول أن المصالحة ممكنة. بما يسمح للنداء بالابتزاز إذا لم يمرر القانون بالنهضة فسيمرره بالجبهة. هنا اختفي النقاش المطروح أعلاه عن قاعدة التحالف بين الحزبين هل هو على قاعدة برامج أم على قاعدة سياسية مرحلية مشروطة بأزمة ظرفية.
هل يمكن أن يكون النداء شريكا في بناء الديمقراطية(الرقص مع اللصوص)؟
لتبرير التحالف مع النداء روج النهضويون موقفا مثيرا للشفقة. واعتقد أنهم يقنعون به أنفسهم قبل الآخرين لتأجيل موت سياسي وشيك. سر تحالفهم هو محاولة شق النداء من الداخل وفرز الدستوريين من اليساريين وإعادة بناء كتلة حزبية تونسية مسلمة تجمع تراث الثعالبي(الزيتوني) وبرنامجه مع تراث بورقيبة وتجربة التحديث. حجة هذا الموقف أن التيار الاستئصالي داخل النداء هو نفس التيار الذي كان داخل التجمع وهو الذي وظف التجمع والدولة لتصفية النهضة وأن الدساترة لا ذنب لهم أو هم في أهون الحالات يمكن ألاَّ يكونوا استئصاليين مستقبلا.
وهذه قراءة خاطئة في التاريخ. ونتائجها الكارثية بدأت تظهر على الساحة وعلى الحزب وعلى خطه الفكري وهو على أبواب مؤتمر.
اقتنعت قواعد الحزب بالموقف وروجت له وتناست أن هؤلاء الدستوريون هو عمق حزب التجمع وهم من أقام دولة بن علي ومن رأي الإسلاميين يدمرون ويشارك في تدميرهم. وأن رئيس الشعبة في قرية منسية هو من كان يتسقط أخبارهم ويخبر عنهم في الصغيرة والكبيرة. رئيس الشعبة لم يكن يساريا كان طينة خبيثة يبحث عن موقع حيث هو ويعرف أن في هلاك النهضة حياة له. وقد ثابر على ذلك وغنم. وهو يثابر الآن ويغنم لم يغير شيئا من سلوكه ولا من نواياه. فهو الذي جلب الموتى ليصوتوا للنداء.
اطمأن حزب النهضة إلى خطته ويرى انها تتقدم فعلا وينشر أخبار الصراعات الداخلية داخل النداء. لكنه يتناسى أن ذلك صراع طبيعي داخل حزب الغنائم. يوجد في البلد ما يرضي الجميع لذلك لا خوف. لكن يجب الحرص على أمرين الإيهام بالضعف لإثارة الطمع، وإبقاء التوتر عاليا بين النهضة واليسار. فهو الضامن ليُقْبِلا كلاهما على النداء بحثا عن التحالف المنجي من الهلاك. هذه اللعبة يتقنها النداء/التجمع/ حزب الدستور منذ 40 سنة. ويقع فيها الطرفان اللدودان لذلك تؤتي أكلها كل حين.
إن المراهنة على انقسام النداء وَهْمٌ خَالِصٌ. والتوقع أن يكون في الدساترة خير أخلاقي وبعض شرف سياسي هو عين الخديعة للذات وللجمهور. والعمل على التحالف مع بعضه دون كله لا يروجه إلا هارب من معركة أو متحيز لمغنم. والتاريخ يعطينا من الشهادات ما يكفي لنقول إن أسوء من في تونس من ضعاف النفوس والطماعين واللصوص الحقراء التحق بحزب الدستور وبقي في التجمع ثم كوَّن النداء. النداء بكل مكوناته ليس حزبا سياسيا بل عصابة (كارتال تبييض أموال ونهب الخزينة) والتعامل معه على غير هذه الصورة هو مسار واهم يضيع صاحبه.
3. الديمقراطية تفشل والنظام الفاسد يعود (خسران الشعوب).
يفترض أن يتم النقاش أعلاه في مجتمع ديمقراطي بين أحزاب مؤمنة بالاختلاف داخل الديمقراطية. نحن لا نتابع في تونس نقاشا بين برامج الأحزاب. نحن نتابع معارك كسر عظم وتصفية واستئصال. ولا يمكن بناء الديمقراطية على قاعدة التنافي المتبادل بين مكونات المجتمع الواحد. هذه قاعدة لبناء دكتاتورية. وما يجري الآن هو عملية نفي منهجي لمكوّن أساسي من الساحة. عملية مماثلة لمجزرة 1991 غير أن النظام القديم ووجهه المتجدد (حزب النداء) فقد القدرة مؤقتا على استعمال القوة. وفي سيره لاستعادة قوته الغاشمة تظل التجربة الديمقراطية الوليدة تعاني من عاهات مستديمة يزرعها فيها الطرف غير الديمقراطي. كانت خيارات الحسم متاحة أمام ما أنتجته انتخابات 2011 وقبل ذلك كانت خيارات الحسم متاحة لكل الحزمة السياسية التي ساندت ثوار القصبة. لا الذين تصدوا للحكم كانوا حاسمين ولا الذين عارضوهم فعلوا ذلك على قاعدة الحسم مع النظام بل بالتحالف معه. وهذه وقائع بينة. ذلك الخلاف فوت على الثورة كل فرص الحسم. والآن يتكالب الجميع على خدمة النظام خوفا منه وطمعا فيه كما كان الأمر قبل الثورة. لكن هناك لحظة شجاعة لا بد ولا بد دفع ثمنها. على حزب النهضة أن يطرح السؤال الآن وهنا. أي خسارتيه أشد فداحة؟ البقاء في هذه الحكومة (الندائية) وهي تأكل من لحمه الحي أم الخروج منها وإنقاذ ما يمكن إنقاذه.