أكتب اليوم بعد طول عناء ومكابدة، بياناً للحق وإبراءً للذمة، لا أطلب رضاء أحد إلا الله ولا أخشى من غضب أحد إلا الله.
أكتب في نقاط فاصلة ما أدين به لله تعالى، من موقعي العلمي دون افتئات على أحد، أو انتصار لأحد:
1ـ أن إقامة الأمم ونهضتها يتطلب إعداداً متكاملا في شتى المجالات، انطلاقا من قول الله تعالى: "وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ ? وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ". سورة الانفال.
وقد رأيت أن كل المفسرين دون استثناء أعرفه يقولون: القوة الرمي، القوة: السلاح، القوة أدوات الحرب، القوة: كل ما يخيف العدو ويرهبه، لأن الإعداد للحرب يمنع وقوعها.
وهو ما عناه الإمام البنا بقوله: إن أول درجة من درجات القوة قوة العقيدة والإيمان، ويلي ذلك قوة الوحدة والارتباط، ثم بعدها قوة الساعد والسلاح، ولا يصح أن توصف جماعة بالقوة حتى تتوفر لها هذه المعاني جميعاً.
نعم لا توصف جماعة بالقوة إلا إذا توفرت لها هذه المعاني جميعاً، فإذا غاب أحد هذه المحاور، أعني العقيدة أو الأخوة او الساعد والسلاح فليست جماعة قوية مستحقة للتمكين ولا آخذة بأسبابه.
2ـ أن القاتل والمغتصب والمتعدي على أموال الناس وأعراضهم لا حرمة له ولا عصمة، كائنا من كان، حاكما أو محكوما، وقد أهدر الاسلام دمه وأوجب القصاص منه. وقد بوب النووي في شرحه لصحيح مسلم بابا بعنوان باب الدليل على أن من قصد أخذ مال غيره بغير حق كان القاصد مهدر الدم في حقه، وإن قتل كان في النار، وأن من قتل دون ماله فهو شهيد.
3ـ أن جمهور العلماء على أنه لا يجوز للمسلم أن يُسْلم نفسه للقتل دون مدافعة، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم الصحابي أن يُسلم ماله دون مدافعة كما في الحديث: ) أن رجلا جاء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا رسول الله أرأيت إن جاء رجل يريد أخذ مالي؟ قال: فلا تعطه مالك. قال: أرأيت إن قاتلني؟ قال: قاتله. قال: أرأيت إن قتلني؟ قال: فأنت شهيد. قال: أرأيت إن قتلته؟ قال: هو في النار). أخرجه مسلم في صحيحه.
4ـ أنه لا يجوز الخلط بين المنهج السلمي في نشر الدعوة وإعداد الأجيال وتعميق الانتماء للإسلام وعدم الإكراه في ذلك، وبين واجب الدفاع عن النفس والعرض والدين والمال وهوية الأمة ومقاصد الإسلام العظيم. وأعتقد أن الخلط بينهما من أسباب الخلاف والشقاق، كما أعتقد أنه ربما يكون لكل مجال منهما رجاله وأهله.
5ـ أن المشكلة لا تكمن في السلمية أو الثورية وإنما تكمن في غياب الرؤية وتكلس الفكر وضيق الأفق، فقبل أن تحدثني عن السلمية أخبرني عن رؤيتك الشاملة، وقبل أن تحدثني عن الثورية أخبرني عن رؤيتك وعدتك وأدواتك ومنهجك.
6ـ أن المنادي بالسلمية عليه أن يعلن بوضوح أن استخلاص آلاف الرجال والنساء من يد القتلة والسفاحين ومغتصبي الأعراض واجب شرعي، يأثم من يملك وسيلة لاستنقاذهم ولم يفعل، ويأثم كذلك من قصر في إعداد ما يلزم لاستنقاذهم وحمايتهم.
7ـ أن المنادي بالثورية عليه أن يفهم أن الشعارات إذا لم تكن لها إمكاناتها الواقعية وحدودها الشرعية، ورؤيتها العلمية، وخطتها الاستراتيجية فهي درب من الخيال، وتلاعب بالعواطف، ومنهجية للانتحار.
8ـ أن الذي يستحل الدماء والأعراض والأموال لا يقاوم بالهتاف الثوري أو النضال الدستوري فحسب، ولو أنه علم أنك ستنطلق من قول الله تعالى: (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم)، لتحسس رأسه قبل أن يفجر رؤوس الأبرياء، ولتحسس جسده قبل أن يحرق أجساد الأصفياء.
9ـ أن مَنْ يَقُل عن آلاف الشباب من المعتقلين والشهداء الذي صمدوا في مواجهة الطغاة حتى نالهم من البلاء ما نالهم: أنتم خالفتم المنهج، وأخطأتم الطريق فهو مجرم في حق دينه وأمته، كائنا من كان.
10 ـ أن هناك بيعة بيننا وبين ألاف الرجال والنساء في ميدان رابعة والنهضة وغيرهما على مواجهة الباطل حتى النصر أو الشهادة ـ وأنا أسميها بيعة الدم ـ فمنهم من قضى نحبه وفياً بالعهد، صادقا في الوعد، ومنهم من حبسه الأسر، ومنهم من ينتظر، ولن نكون الخائنين، أو الغادرين، أو الناكثين، فمن أراد أن يستسلم أو ينبطح أو يقدم مصالحَ ضيقةً على مصلحة الثورة ومصلحة الأمة فليفعل، أما نحن فكما قال القائل:
سأثأر ولكن لرب ودين وأمضى إلى سنتي في يقين
فإما إلى نصر فوق الأنام وإما الى الله في الخالدين
11ـ أن الذي لم يفهم أن الأمور تغيرت، وأن الواقع الجديد يحتاج إلى اجتهاد جديد، وفكر جديد ومنهج جديد، ورؤية جديدة، وإدارة جديدة مؤهلة، تستشرف المستقبل، وتستثمر الطاقات وتحشد الكفاءات، وتنتهز الفرص في وقتها، لا مكان له في أرض الصراع، وإنما عليه أن يخلد للراحة، وأن يستغفر الله من التقصير، ويسأل الله حسن الخاتمة.
12ـ أن شرع الله تعالى فوق الجميع وحاكم على الجميع، وأن الدعوة أبقى من كل الأفراد، وأوسع من كل الكيانات، وأقوى من كل الطغاة، فمن سار في ركبها فاز بسعادة الدارين، ومن أراد أن تسير في ركبه فليتهيأ للخذلان.
13ـ أن الطغاة أضعف مما يتخيل الجميع، والنصر أقرب مما يتوقع الجميع، ويد لله تعمل، وتقدير الله نافذ، وسنة الله في فضح خبايا النفوس وتنقية الصفوف لا تتبدل ولا تتحول، فلا يأمنن أحد على نفسه، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
وللحديث بقية إن شاء الله.
* الكاتب أستاذ بجامعة الأزهر ـ والأمين العام لرابطة علماء أهل السنة.