في الأماكن التي تتراجع فيها مركزية الدولة مثل لبنان والعراق وقطاع غزة يمتلك الناس مساحات أوسع لحرية التعبير عن آرائهم ومعارضتهم للسلطات، وينشئ المعارضون مؤسسات صحفيةً وفضائيات و تخرج أقلام ثورية في نقد السياسات القائمة وشجب الفساد في مؤشر خادع على بيئة تعددية فيحسبها الظمآن ديمقراطيةً حتى إذا جاءها لم يجدها شيئاً..
في درس مصر المؤلم ظننا أن حالة الفوضى التي أعقبت يناير 2011 قد أنهت حقبة الاستبداد إلى الأبد، وكنا معجبين بحرية الناس في التظاهر كل جمعة وثلاثاء وبانطلاق فضائيات لألوان الطيف المختلفة، وقد بلغت بنا السكرة أننا لم نكن نصدق من يحذر من ضياع الثورة، وكنا نرد على هؤلاء منتشين: أي قوة تستطيع أن تعيد الناس إلى بيوتهم بعد أن خرجوا منها!، وحين سئل أحد قادة الثورة في برنامج تلفزيوني عن احتمال الانقلاب على الرئيس أجاب بثقة: يمكنهم أن ينقلبوا على الرئيس لكنهم لن يستطيعوا تقرير الخطوة القادمة، فما الذي يمنعنا من حشد الملايين ومحاصرة القصر الرئاسي والاعتصام أمامه حتى يذعنوا لقرار الجماهير!!
هكذا كان الجو السائد في مصر؛ ثقة تناطح السماء بقوة الجماهير واستحالة كسر إرادتها، لكن حين جاءت الصدمة الكبرى ليلة الثالث من يوليو انتهى كل شيء ببساطة، في خمس دقائق أغلقت كل الفضائيات المعارضة واعتقل كل النشطاء، وأعلنت الطوارئ ومنعت التظاهرات وانكفأ المتظاهرون في حدود ميدان صغير اسمه رابعة..
كان وقع صدمة انقلاب مصر شديداً على نفوس كل الحالمين بعصر ديمقراطي جديد، واستغرقنا زمناً حتى نستوعب حقيقة ما حدث وكيف ينتهي كل شيء ببساطة، كيف اختفى الثوار الذين لم يغادروا الشارع طوال عامين وكنا نظن أنهم نجحوا في فرض أنفسهم رقماً صعباً، وكيف انشقت الأرض وابتلعت كل الصحف والفضائيات والشخصيات المثقفة التي كنا نظنها سداً منيعاً يحمي الثورة!
السبب بسيط، وهو أن الإنجاز الوحيد المعتبر الذي حققه الثوار طوال عامين كان هو حرية الكلام، فركنوا إلى هذا الإنجاز وغفلوا عن حقيقة موازين القوى القائمة التي تتحكم فعلياً في مسار الدولة وفي اتخاذ القرار، لقد كانت هناك قوة متحكمة في البلاد متوارية عن الانتظار لم يقترب أحد من نفوذها، هذه القوة التي سميناها
الدولة العميقة حين رأت الجماهير تخرج غاضبةً إلى الشارع انحنت للعاصفة لتحمي نفوذها، وأسست لمعادلة خبيثة في التعامل مع هذه الجماهير: لكم حرية الكلام ولنا حرية الأفعال، لكم حرية التعبير ولنا حرية التدبير.
الدولة العميقة ليست مصطلحاً حصرياً على الحالة المصرية، بل هي ظاهرة سياسية واجتماعية في الدول التي لم ترسخ فيها ديمقراطية حقيقية يشارك فيها الشعب بصناعة القرار ومراقبة السلطات ومحاسبتها، ويسود فيها الغموض والصفقات السرية المشبوهة ويغيب عن الجمهور حق المعرفة و الوضوح والشفافية، في هذه الدول تكون هناك شبكة أخطبوطية تمد أذرعها ممسكةً بالمفاصل الحساسة تتكون من أصحاب المصالح والنفوذ، هؤلاء لا يعنيهم الظهور أمام الإعلام لكن يعنيهم حماية مصالحهم ونفوذهم، لا يعنيهم مظهر السلطة بل يعنيهم حقيقتها فهم المتحكمون الفعليون بثروات البلاد وقرارها، هذه الشبكة الأخطبوطية لا يضرها بعض التظاهرات وبعض الأقلام و مطالبات عامة بالإصلاح والديمقراطية والشفافية، بل إن أحدهم لن يجد حرجاً في أن يرتدي بذلةً أنيقةً ويخرج إلى الجمهور مطالباً بالديمقراطية والشفافية ولاعناً الفساد والمفسدين، فهم يدركون أنها مطالب فضفاضة لا تتبعها مسئولية ولا محاسبة ويعلمون أن الجمهور يفتقد للآليات التنفيذية التي يستطيع بها مراقبة التجاوزات التي تدور في الخفاء.
في البلاد التي تسود فيها ديمقراطية التعبير وتنعدم ديمقراطية التأثير تكون المشكلة أكثر تعقيداً من دول الدكتاتوريات الفجة، ففي الأخيرة يكون عنوان الفساد والاستبداد واضحاً يسهل معه تحشيد الغضب الشعبي تجاهه واستهدافه بعد تراكم الشعور بالظلم والقهر لدى الجماهير، أما في دول الديمقراطيات الخادعة فإن العدو هلامي متوار عن الأنظار يصعب تحديد ملامحه، فالكل يهتف ضد الفساد والظلم، والسلطات تتباهى بالحريات الممنوحة للشعب، والشعب ذاته ينخدع منه تيار كبير بما يرى من مظاهر حرية التعبير فيظن أنه حقق حلم المدينة الفاضلة وأن كل الواجب الملقى على عاتقه تجاه وطنه هو أن يشارك في تظاهرة أو أن يفش غله في تدوينة الكترونية، وفي الوقت الذي يتسلى فيه الشعب المسكين بتنفيس غضبه بالهتاف أو التدوين ينظر الفاسدون من طرف خفي ساخرين قائلين: دعوهم يقولون كلمتهم ويمضوا.
الديمقراطية الفاعلة لا تكون بحرية الكلام وحده، بل بقدرة الشعب على فرض نفسه كقوة سياسية مؤثرة قادرة على صناعة القرار ومراقبة السلطات وامتلاك أدوات قانونية وتنفيذية في الكشف عن الفاسدين ومحاسبتهم، إن الديمقراطية التي لا تضع يديها على حقيقة القوى المتنفذة في الدولة وتجبرها على الشفافية والوضوح وتقصقص أجنحتها المتغولة ليست سوى وهم وسراب كبير، لأن مقياس نجاح الديمقراطية هو المخرج النهائي والواقع العملي وليس الكلام والفضفضة.
تعطينا تجربة مواقع التواصل الاجتماعي درساً مهماً، فملايين الشباب العربي منذ أكثر من عشر سنوات يبثون همومهم وشكايتهم على هذه المواقع، فإلى أي مدىً ساهم كلامهم في زحزحة مواقع المتنفذين وفي الإضرار بمصالح قوى الدولة العميقة؟
كثيراً ما يتخذ الحزب الحاكم من ديمقراطية التعبير أداة تخدير للجماهير، فإذا واجهه الناس بالمظالم والمفاسد المتفشية حرف وجهة النقاش بالقول: حسناً علينا أن نرى النصف الممتلئ من الكأس، فها أنتم تتحدثون وتنتقدون بكامل حريتكم وهذا ما لا يتوفر في البلاد الدكتاتورية، فينتشي الشباب المسكين بهذا المخدر ويشعر براحة ضمير ويظن أنه أدى الذي عليه، بينما تظل المظالم والمفاسد قائمةً دون معالجة، وقد كان الرد الأجدر على دعاية الحكام: حسناً إننا نتكلم بحرية لكن الكلام ليس هدفاً لذاته، بل هو وسيلة لتحقيق أثر واقعي، وما دام هذا الأثر الواقعي لم يتحقق بعد فهذا يعني أن علينا أن نواصل النضال والضغط حتى نشعر أن كلامنا ليس صرخةً في واد، وأن حرية التعبير ليست مجرد ألهية لصرفنا عن عمق المشكلات ، إن هدفنا أن نفرض في نهاية المطاف حلولاً جذريةً .
ديمقراطية التأثير ليست مجرد فورة غضب عشوائية، بل لا بد أن يدعم هذا الغضب بوعي كاف لتوجيهه في اتجاهاته الصحيحة، لم يكن ينقص ثوار مصر مزيد من الحماس والغضب، بل كان ينقصهم الوعي الكافي لتحديد الأولويات والبدء بمعالجة الجذور، فوجهوا هتافاتهم تارةً لمحاكمة مبارك وتارةً حول مرجعية الدولة و ثالثةً ضد أمريكا ورابعةً لنصرة المسجد الأقصى، وغفلوا عن الهدف الأكثر إلحاحاً وأولويةً وهو استكمال الثورة ومواجهة العدو الكامن متمثلاً في النظام السابق الذي ظل جاثماً بكل بنيته وعنفوانه ومؤسساته حتى نجح في الانقضاض عليهم وسرقة ثورتهم..